غير تحامل على نفسه، وإرهاق لذهنهن لكثرة اعتسافه ومزجه الغرر بالعرر والمأنوس بالوحشي الكدر، انظر إلى قوله يصف قصيدة له:
لها بين أبواب الملوك مزامر ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمر
فجعل كما ترى للقصائد مزامر إلا أنها لا تنفخ ولا تزمر ثم تأمل قوله وما أحسنه وألطفه:
أيامنا مصقولة أطرافها ... بك والليالي كلها أسحار
فقد تراه يخلط الحسن بالقبيح والجيد بالرديء والحلو بالمر، وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات ومتفرقة في أشعار القدماء، وإن كانت لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة فاحتذاها وأحب الإبداع في إيراد أمثالها فاحتطب واستكثر منها. وقد وقع في هذا العيب كثير من كتابنا وشعرائنا وسترد عليك أمثلة من ذلك مثبوتة في تضاعيف هذه الرسائل كل في موضعه.
لست أنكر أن الاستعارة المصيبة وما يجري مجراها من أنواع البديع قد تبرز المعنى في أحسن معرض، مثل قوله تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن فإن ذلك أدل على اللصوق وشدة المماسة، ومثل قول الشاعر رأيت يد المعروف بعدك شلت ومثل قول البحتري في صفة البركة:
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... وريّق الغيث أحياناً يباكيها
وقول أبي تمام:
فقد سحبت فيها السحاب ذيولها
وهو كثير في كلام العرب وشعرهم وخطبهم وأمثالهم وليس بنا إلى استقصاء ذلك حاجة، ولكن للجمال العاطل أيضاً روعة وإجلالاً، ونضرة وملاحة، وموقعاً حسناً، ومستمعاً طيباً، وعليه فرند لا يكون على غيره، مما عسر بروزه، واستكره خروجه.
على أن تأثير العبارة لا يكون بحسن تأليفها، وجودة تركيبها، وجمال رصفها، فإن ذلك وحده - على شدة الحاجة إليه - غير كاف، بل لا بد للكاتب أو الشاعر أن تكون نواحي نفسه جائشة بما يحاول أن ينسجه من خيوط الألفاظ، فليست فضيلة التأثير راجعة إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض، ونتائج ما بينها، ولا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ، وبدائع تروعه من مبادئ الكلام ومقاطعه، ومجاري الفقر ومواقعها، وفي مضرب