للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة لحق لهم أن لا يرجوا منها بعد الآن ثمراً. ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق. وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها. فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، ولا يركض للترك جواد في بطاح مقدونية، أو يمخر لهم أسطول في بحر الروم، أو يتوغل منهم سلطان في أحشاء الغرب، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء، ويتسع لهم في آسيا أمة آسيوية بحتة، كاليابان في شرقها، وهل أذهبت عزلة هذه عن أوربة شيئاً من فخامة ملكها وعزة شأنها. .

فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضى الأمر، فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخرة دورات الفلك، ولئن استحال ذلك كما قد يرى القانطون، فإنما هو محال في أوربة وآسية على السواء.

لا نزعم أن المسألة تافهة هينة، ولكننا لا نظن كذلك أننا عند فراش محتضر طال به النزع، ولا أننا بين يدي شيخ فإن يتوكأ على عصا الشيخوخة إلى حافة القبر، ولا نتربص الموت بهذا الرجل المريض بل قد نرى فيه من الحيوية ما يعمر به إلى ما شاء الله. إذا سوعف بما ينفعه من الدواء.

قال ابن خلدون الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته ثم قال: ولهذا يجري على السنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة.

ولا ريب أن ابن خلدون كان يكتب فصله هذا وهو إنما يحضره خيال تلك الدول العربية التي توارثت الملك دولة بعد دولة، ولا ينظر إلى قيام العباسيين تلو الأمويين، وتعاقب العروش الأفريقية والأندلسية بين السلائل المغربية. وكان لم يئن بعد لعمراني العرب أن ينظر إلى الأمة دون الدولة، لأنه لم يكن للأمة في تلك العهود وجود منفصل عن وجود الدولة، فكان شباب الأمة أو هرمها عنده لا يعرف إلا بالنظر إلى قدرتها على إمداد الدولة بالجند ونشاطها إلى الحرب وراء الفاتحين من ملوكها. فإذا استطاع الملك أن يستجلب الجند من غير أمته فالدولة فتية شابة، ولا شأن لحياة الأمة في عمر دولتها ما دام للملك جند