ولكنه قول كان لا يصادف معارضاً لو قيل قبل جيل أو جيلين. أما في عصرنا هذا فقد تبين أن الجنون والنبوغ فرعان من أصل واحد، وأن العبقرية والمواهب العقلية المختلفة لا تنشأ إلا عن خلل في توازن القوى العقلية يرتفع ببعضها إلى ما فوق المستوى العادي وينخفض ببعضها إلى ما دونه، وأكثر ما هنالك من الفرق بين الجنون والعبقرية أن الأول خلل مصحوب بذهول عن العالم الخارجي ولكن العبقرية خلل لا يفصل صاحبه عما حوله.
على أن أعراض الجنون ظاهرة في كتابات نيتشه فهو إذاً كان لم يحمل عصاه ويروغ بها على الناس ضرباً وهشماً فقد حمل قلمه فحطم به كل رأي تعرض له في طريقه، بجرأة وثقة لا يكونان إلا لمجنون.
ولكنه مع ذلك سديد الملاحظة ثاقب البصر، فأما ملكة الحكم فيه فبادية الضعف بينة الخطل، ولعل هذا هو السر في افتقار فلسفته إلى التبويب والترتيب واكتفائه بسرد ملاحظاته سرداً، وإرسالها بغير تعقيب جامع شامل لا شتات رأيه.
وهذا هو السر أيضاً في تناقض أفكاره واختلاط مسالكه، فبينما تراه بعد كنس الإسطبلات من أعمال البطولة لأنه عمل نافع، تراه في مقدمته على الفلسفة اليونانية يستحسن من اليونان احتقارهم كل أعمال المعيشة لأن الغرض منها قيام الجسد في الحياة. وما الحياة؟؟ إن هي إلا بنت الضرورة القاشرة وفلتة الطبيعة الجامدة ثم هي لا شيء في ذاتها في نظر نيتشه. وهو إنما يشايع اليونان في احتقار العمل توصلاً إلى تأييد رأيه في تقسيم الطبقات ومؤداه أن طبقات العمال لا نصيب لها في الطموح إلى حياة الفكر والجمال، وأنه لا بد من بقاء هذه الطبقات في ربقة الشقاء والعمل الخسيس ليتفرغ أهل الطبقة العليا للتملي ببدائع الكون والتفكير في شأن المجتمع، وهو ما لا يفقهه أهل الطبقات الدنيا.
وبينما يستقبح أصول الأخلاق الحاضرة لأنها عريقة في الحيوانية كما ترى في جملته المنشورة بعد. يذهب من ناحية أخرى إلى نزع عاطفة الرحمة من نفس الإنسان لأنها تعارض ناموس بقاء الأنسب وأنه من الواجب تقوية الأقوياء وإبادة الضعفاء ثم لا تكون حجته على ذلك إلا أن الحيوانات والهمج لا يشفقون على الضعيف أفما كان الأولى بنيتشه على هذا القياس أن يحبذ أخلاقنا الحاضرة لأنها أعرق في الطبع وأقدم؟؟
وكأن هذا الخاطر لا يرد إلا على أذهان النوكى. فقد خطر من قبل لهبنقة الذي يضرب