للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ملكني الغضب ما أوتيت من فرط الأيد والبطش ولم ترفع فيّ إلى القانون شكوى بذلك ولكن الصحافة أغرت بي نباحها. وواصلت صياحها. وجعلت لا أمر بأحد إلا رمقني شزراً. فلعنت البلد وأهلها وشخصت إلى ضيعتي الشمالية أبغي بها دعة وسلاماً وفراغاً أملؤه بالدرس والتأمل. وقد حملت معي إلى ذلك المثوى الجديد نخبة من أحدث الآلات والكتب العلمية إلى ما أحتاجه غير ذلك من المواد الكيماوية.

وكانت تلك الأرض التي نزلت مستدقاً طويلاً من الرمل تمتد مع شاطئ خليج مانسي ميلين في مقاطعة كانثيس وكان بهذه الرملة بناء قديم أغبر فأصلحته وجعلت إحدى غرفه معملاً وأخرى مجلساً وثالثة مرقداً وكان به ثلاث غرف غير هذه تركتها خاوية إلا واحدة أعطيتها للعجوز التي تخدمني ولم يكن لي جيران سوى أسرتين من صادة السمك. وكان أمام الدار الخليج ووراءها تلان دونهما تلال أشمّ وأسمى. وبين التلين شعب إذا جاءت الريح من قبل التلال عصفت فيه فكان لها بين حضنيه زفيف ورنة ثم هبت على ما دون نافذتي من الدوح فتناجت الأغصان وسواساً وهمساً.

وليعلم القارئ بعد أني رجل أسيء بالناس ظناً. وأضمر لهم ضغناً. مطوي الجوانح لهم على بغضاء. مثني الأضالع على شحناء. والحق أقول أن عندهم لي مثل ما عندي لهم يجزونني بالحقد حقداً. وبالصد صداً. فأنا أمقت منهم التدني والتحاقر. والتسفل والتصاغر. والاصطلاحات الكاذبة والاعتبارات الباطلة ويسوءهم مني صراحتي المتناهية وانتهاكي حرمة قوانينهم الاجتماعية وجزعي من كل ما فيه تضييق على النفس وحبس لعنان الشهوة واستباحتي كل حريم في اعتبارهم واستحلالي كل محظور وانتزاعي كل طوق وصدعي كل قيد وخروجي من كل أمر ونهي. وكذلك أصبحت في معتكفي هذا بين أسفاري وأخلاطي مليئاً أن أدع تيار الحياة الزاخر يمر بي جياشاً بما بحت لجه من سياسة واختراع وقيل وقال راكداً دونه بمثواي ذاك آجناً آسناً. ولكني سعيد بين ذلك رخيّ البالي. بل مالي أقول أني كنت آجناص آسناً وما آليت تحثاً وفحصاً وتحصيلاً وطلباً أديم الجد وأدمن الكد.

وكنت أنضو سحابة اليوم في تجاريبي العلمية ويا طالما كنت أٍسهو عن الغداء فإذا دعتني العجوز مادج للشاي ألفيت الطعام على المائدة برمته. وكنت أقرأ بالليل فلسفة باكون ودسكاتيز وشينوزا وكانت وسائر من تطلع في عوالم المجهول. ولقد وجدت أقوالهم جميعاً