للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أما في الشعر فالأمر على خلاف ذلك، لأن الآتي لا يفوق الفائت، ولكن يبلغ شأوه، ولا خوف على متقدم من متأخر، فإن المتنبي لم يخمل اسم النابغة، ولا صغر المعري قدر البحتري، ولا أنزل الشريف من رتبة ابن هانئ، ولا ابن الرومي من بشار، ولقد أعجبتني كلمة كتبها (جويتى) إلى معاصره (شيلر) قال:

لقد عادت النفس فحدثتني أن أجعل قصة (وليام تل) ملحمة شعرية، ولست أخشى على من روايتك، ولا بأس عليك مني ولا بأس عليَّ منك.

وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض ولا

يدفن بعضهم بعضاً ويمشي ... أواخرهم على هام الأوالي

وليس الأصل في الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحول من مثل هومر وشكسبير وابن الرومي في آخر العصور ولا في أولها، ولكنك ترى الشعر في جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر في حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصداً للغاية، لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان، ولا يعروها فتور في عصر من العصور، كالبحر، وليس يزيد البحر صوب الغمام، ولا يضيره احتباس الغيث، وأنت فلا يغرنك ما ترى من الكلال في الأوقات، والضعف في الأحيان، فإن المدّ في جهة يستلزم الجزر في أخرى،. . وكما أن البحر إمّا جاش يبثك ما في صدره مرة واحدة، ويفيض لك بجميع سره موجه الملتطم، وأذيه المصطفق، ولجه المربد، وثَبَجُه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية، وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها، في كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء: تسكن الإلياذة فتثور (الرومانسيرو) ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن، وتأتي بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومي وبعد صبا البحتري صرصر المعري،. . . ورب مستفسر يقول إذا كان هناك كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه وهذا خطأ وهو أيضاً صواب فإن الشعراء جميعاً أشكال متشابهون على أنهم بعد يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد، والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة، والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه.

كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهي بعد كلها رياح،. . والأيام سبت