للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلم تعد الأميرة قط بعد ذلك إلى إتيان ذلك المنكر. والإنكليز أشد الناس انقباضاً وحشمة ولا مسوغ عندهم لإبداء الطرب إلا التمثيل والموسيقى ولا يجيزون من الصوت إلا الخفيض الخفي الذي لا يسمع إلا من خوطب به. ومنهم من تدرك في صوته رنة يأس كأنما تناجيك قائلة اقطع الرجاء من كل شيء.

والادعاء والزهو والمفاخرة أبغض الأشياء إليهم حتى نراهم إلى عكس ذلك يجنحون يخشوشنون الثوب والصوت والهيئة. يكرهون التصنع ويعمدون إلى أكباد الحقائق وما برحوا - منذ كانوا - يرذلون اللغو والهذر ويمقتون تكلف الرقة والظرف والأطناب والمبالغة ويسلكون القصد قولاً وفعلاً ويجرون على الفطرة والغريزة من السذاجة والخشونة حتي غدا خليعهم بروميل قد عرف بسذاجة لباسه. وأحسن ما يمتدحون به قلة التكلف والتصنع في شؤونهم العامة والدقة والأحكام والعمد إلى لب الحقيقة في أمورهم الخاصة.

في أمة أرسطوقراطية كأمة الإنكليز ليس عجيباً أن يكون أجل الاحتفالات حفلة العشاء. لا حفلة القضاء. ومجلس الطعام. لا مجلس الأحكام. ودعوة الغريب عدهم هي الآية على تبجيله وتكريمه - وما انفكت كذلك منذ غابر الأعصر. قال الرحالة الإيطالى في عام ١٥٠٠ والإنكليز يرون دعوتهم الغير إلى موائدهم ودعوة الغير إياهم إلى موائد الغير أجل ما يعطى يؤخذ وإنهم لأسرع إلى بذل العشرة الدنانير في صنع المآدب منهم إلى بذل الدرهم الواحد في صنع المآثر وإغاثة الملهوف. ونعيم المائدة يستبقي إلى أول ساعة من الليل وله لباس مخصوص سواء كان بدار الرجل أو بدار آدبه. وقبل العشاء بنصف ساعة يحضر الضيفان وليس سوي الموت أو السجن من حائل دون الحضور. ويجلس القوم على الخوان ساعتين ثم تقوم السيدات في غرفة السمر. وهذه الولائم تولد عند القوم ملكة البيان وخلابة الحديث فتري ما يلقي هنالك من الحكايات منظماً مصقولاً لعله من طول إعادة وتكرار. وهنالك تلقى إليك الكنوز الأفكار ما أودعت من درر وغرر وتبرز إليك خزائن الصدور ما ضمنت من تحف وطرف وتصطادك حبائل الحديث كل شاردة شموس ونافرة جموح من ملحة أدبية إلى مسألة عملية إلى فائدة أخلاقية إلى كلمة جامعة وحكمة بارعة وكناية رائعة إلى مثل سائر وبيت من الشعر نادر وتشبيه معجب باهر. وأخبار وقصص ونوادر.