للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولا جرم فقد سهل على حواسنا أن تدرك ملذاتها فانغمست فيها. وقصرت عقولنا عن أدراك معانيها فحيل بيننا وبينها ولو أنك حملت زنجياً حقيراً إلى باريس لتمتع بكل رذائلها في اسبوه واحد ولكنه لن يتمتع بمعارفها وآدابها لأن الفرق في الحواس قريب بين أرفع الناس وأحطهم ولكنه بعيد جداً في العقول والأذهان.

فنحن اليوم نعب من إباحية المدنية الأوربية ومنكراتها، ولا نذوق قطرة من عظمتها وطيباتها وما كنا لننتظر أن نجني ثمرة المدنية بغير شوكها. فإن المدنية شباب الإنسانية. وفي سن الشباب تتولد الشهوات كما تتفتح القوى وتنمو المدارك. ليست طهارة الفطرة إلا كطهارة الطفولة التي لا تأثم لأنها فارغة من الشهوات كما أنها فارغة من القوى والمدارك. ولكن الرزيئة أن نضيع سلامة الفطرة ولا نبلغ رقى المدنية. وذلك ما صنعناه.

ولقد أصاب الدكتور لوبون كل الإصابة إذ يقول: الخلق لا العقل هو الذي تقوم عليه الجمعيات البشرية وتؤسس الديانات وتبني الممالك وهو الذي يجعل الأمم تحس وتعمل وما كان كسب الأمم كثيراً من شحذ الأذهان والتعمق في التفكير.

أي والله. فأن الإنسان بغرائزه. وأن الحياة بزوبرها لا شيء إذ لمحناها من ناحية العقل ولكنها من ناحية الغرائز كل شيء، بل لا شيء سواها وليست الفضيلة ما سلم به الإنسان بتعليل عقله. ولكن الفضيلة ما نشأ عليه وتضمنه طبعه وزجلته إليه فطرته.

فلتكن عنايتنا بالعلم بعض عنايتنا بالأخلاق. وهذا عمل تتكفل به المدارس والمحاكم والكتب. ومما يهون الأمر أن الإصابة محصورة في طائفة قليلة من ناشئة المدن. فإذا وقيت الأمة من عدواها كان الأمل في الجيل القادم وثيقاً.

ولا ننكر أن الأمر يلزمه شيء غير يسير من التضحية والمفاداة. ولا بد له من قادة من عظماء الأخلاق والنفوس يقفون في وجه أهل الفساد وأنهم على التفافهم لتسرح فيهم كلمة الحق كما تسرح شرارة النار في الفاف الأجمة اليابسة.

يقول الدكتور لوبون إن الفارق بين الأوربيين وبين الشرقيين هو اختصاص أولئك بفريق راق من العظماء دون هؤلاء.

كلا. بل لكل نصيبه من العظماء. فللغرب عظماء العقول وللشرق عظماء النفوس. ومن للشرق اليوم بعظيم من أولئك العظماء الذين كان يجود بهم أحياناً. فيقوّم من أوده. ويعزر