للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ج

وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ ... وَقَدْ صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَاتِ

كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ ... وَلَمْ يَكُ فِيهِمْ خِلٌّ مُؤاتِ

واعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أن مِمَّا يعينك على الفكرة فِي الموت ويفرغك لَهُ ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الَّذِينَ مضوا قبلك وتقدموا أمامك.

كَانُوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.

ويتذكر أيضًا ما كَانُوا عَلَيْهِ من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم وما كَانُوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كَانُوا فِي نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون.

وفى أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزَوَال، ولا يهمون بانتقَالَ، ولا يخطر الموت لَهُمْ على بال، قَدْ خدعتهم الدُّنْيَا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.

فلم تزل تقرب لَهُمْ بعيدها، وترفع لَهُمْ مشيدها، وتلبسهم غضَّها وجديدها، حَتَّى إِذَا تمكنت مِنْهُمْ علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشف لَهُمْ حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.

فوثَبِّتْ عَلَيْهمْ وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قلة المختنق، فكم عَلَيْهمْ من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقُلُوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية، وأنشدوا فِي هذا المعنى:

<<  <  ج: ص:  >  >>