للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِنْ تصوَّرَ هذا حَقَّ تَصَوُرِه فَهِمَ مَعْنى قولِهِ ?: ((وأعُوذُ بِكَ مِنكَ)) وقوله: ((لا مَلْجأَ ولا مَنْجَى مِنكَ إلاَّ إليكَ)) . فإنه ليسَ في الوُجُودِ شئٌ يَفرُّ مِنه ويُسْتَعَاذُ مِنه ويُلَتجأَ مِنه إِلاَّ هُوَ مِن اللهِ خَلْقاً وإِبْدَاعاً.

شِعْراً: ... تَوَكَّلْ على الرحمنِ في كُلَّ حَاجةٍ ... أرَدْتَ فإنَّ الله يَقْضِيْ وَيقَدِرُ

مَتَى ما يُردْ ذُو العَرشِ أَمْراً بِعَبْدَهَ ... يُصِبْهُ، وما لِلْعَبِدِ ما يَتخَيَّرُ

وقد يَهلَكُ الإِنسانُ مِن وَجْهِ أمْنِهِ ... وينجو بإذنِ الله مِن حَيْثُ يَحْذَرُ

فالفارُ والمُسْتَعِيْذُ فَارٌ مِمَّا أَوجَدَ قَدَرُ اللهِ ومشيئتهُ وخلقُه إلى ما تقضِيهِ رحمتُه وبرُّه ولُطفهُ واحسانُه، ففي الحقيقةِ هو هاربٌ مِن اللهِ إليه مُسْتَعْيذٌ باللهِ مِنه.

وتَصَوُّرُ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يُوجبُ لِلْعَبدِ انقطاعَ تَعَلقِ قَلْبِهِ عن غيرهِ بالَكُليةِ، خَوفاً ورَجَاءً، ومحَبةً.

فإنه إذا عَلِمَ أن الذي يفِرُ مِنه ويَسْتِعْيذُ منه إنما هو بِمَشِيئْتهِ اللهِ وقُدْرَتِهِ وخَلْقِهِ لم يَبْقَ في قلبه خَوفٌ مِن غير خالِقِه ومُوْجِدِهِ.

فَتَضَمَّنَ ذلكَ إفراد اللهِ وَحْدهُ بالخوفِ والحُب والرجاءِ. ولو كان فِرَارُهُ مِمَّا لم يَكُنْ بِمَشِيْئَتِهِ ولا قُدْرَتِهِ لكن ذلك موجباً لخوفه منه مثل ما يفر من مخلوق إلى مخلوق آخر أَقدر منه.

فإنه في حالِ فِرارِهِ من الأولِ خائِفٌ منه حَذِراً أن لا يكونَ الثاني يُفِيْدُهُ مِنه بخلاف مَا إذا كان الذي يفر إليه هُوَ الذي قَضَى وقَدَّرَ وشَاءَ ما يَفِرُ مِنه فإنهُ لا يَبْقَى في القلب التفاتُ إلى غيره.

فَتَفَطَنْ إلى هذا السِرّ العَجيْبِ في قَولِهِ ((أعُوذُ بِك مِنكَ)) و ((لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليكَ)) فأَنَّ النَاس قد ذكروا في هذا أَقوالاً، وقُلَّ مَن تَعَرَّضَ منهم لهِذِهِ النُكْتةِ التي هِي لُبُّ الكلامِ ومقصودُه. وبالله التوفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>