للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتأمل كيفَ عادَ الأَمرُ كُلُّهُ إلى الفِرارِ مِن الله إليه وهو مَعنى الهِجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي ?، ((المهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نهى اللهُ عنه)) .

ولهذا يَقْرنُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الإيمانَ والهجرةَ في غيرِ موضعٍ لِتلازُمِهمَا واقتضاءِ أحدهِمِا للآخرَ.

والمقصودُ أن الهجرةَ إلى اللهِ تتضمنُ هِجْرانَ ما يَكْرَهُهُ واتيانَ ما يُحبه ويرضاه وأصلُهُما الحبُ والبُغضُ.

فإِنّ المهاجرَ مِن شئٍ إلى شيءٍ لا بُدَّ أن يكونَ ما يُهاجِرُ إليه أحَبَّ مما هاجَرَ مِنه فَيؤثِرُ أَحَبَّ الأمَرينِ إليه على الآخر.

وإذا كان نفَسُ العبدِ وهَوَاهُ، وشيطانُه إنما يدعونَهُ إلى خِلاف ما يُحبهِ ويَرضَاهُ، وقد بُلي بِهَؤلآءِ الثلاث.

فلا يَزالُونَ يَدْعُونَه إلى غير مَرْضَاةِ رَبِهِ، وداعِي الإِيمانِ يدعُوه إلى مَرضاةِ ربِه، فعليه في كُلِ وقْتٍ أن يُهاجِرَ إلى اللهِ ولا يَنْفَكَ في هِجْرَتِه إلي الممات.

وهذِهِ الهِجِرةُ تَقْوىَ وتَضْعُفُ بحسَبَ دَاعِي المحبةِ في قلب العبدِ فإِن كان الداعِي أَقْوى كَانِتْ هذِهِ الهِجرة أَقْوَى وأَتَمُ واكملُ وإِذَا ضَعُفَ الدَاعِي ضعُفَتِ الهِجرةُ حتى لا يَكَادُ يَشْعُرَ بها عِلماً، ولا يَتَحَرَّكُ لها إرَادَةً.

والذي يَقْضِي مِنه العَجَبُ أَنَّ المرءَ يُوسِعُ الكلامَ وُيفَرِّعُ المسائلَ في الهِجرة مِن دارِ الكفر إلى دَارِ الإِسلام، وفي الهِجرة التي انْقَطَعت بالفَتْحِ، وهَذِهِ هِجْرَةٌُ عَارضَةُ. رُبَّمَا لا تَتَعَلقُ به في العُمْر أَصْلاً.

وأما هَذِهِ الهِجْرَةُ التي هِي واجبَةٌُ على مَدَى الأَنْفَاسِ لا يَحْصُلُ فِيها عِلْماً ولا إرَادَةً ومَا ذاكَ إِلاَّ لِلأَعْرَاضِ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، والاشتغالُ بِما لا يُنْجِيْهِ وحْدَهُ عَمَّا لا يُنْجِيْه غَيْرُهُ قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} .

<<  <  ج: ص:  >  >>