وَقَالَ آخر: ما الدُّنْيَا وما إبلَيْسَ، أما الدُّنْيَا فما مضى منها فحلم وما بقى فأماني، وأما الشيطان فوَاللهِ لَقَدْ أطيع فما نفع بل ضر، ولَقَدْ عصي فما ضر.
وعلمت جهالة هذه النفس وجماحها إلى ما يضرها ويهلكها فنظرت إليها رحمة لها نظرة العقلاء والْعُلَمَاء الَّذِينَ ينظرون في العواقب.
لا نظر الجهال والصبيان الَّذِينَ ينظرون في الحال ولا يفطنون لغائلة الأَذَى وينفرون من مرارة الدواء فألجمها بلجام التقوى بأن تمنعها عما لا تحتاج إليه بالحَقِيقَة من فضول الكلام والنظر والتلبيس بخصلة فاسدة من طول أمل أو حسد أو كبر أو نحو ذَلِكَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن الشيطان قاسم أباك وأمك حواء إنه لهما لمن الناصحين، وقَدْ علمت كذبه وغشه ورَأَيْت فعله بهما وأما أَنْتَ فقَدْ أقسم أن يغويك قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فاحذره وشمر عن ساق الجد في الفرار عن مكائده والعجب ممن يصدق في عدواته ويتبع غوايته.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتْ الْمرعَى فَلا تُسَمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَن السُّمَّ فِي الدَّسَمِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا ... وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِِنْ عَيْنٍ قَدْ امْتَلأتْ ... مِن الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ
قال في الفنون: من عجيب ما نقدت من أحوال النَّاس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.
وقَدْ رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السُّنَن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الَّذِي لا يجدي والقبيح الَّذِي يوبق ويؤذي فلا أجد مِنْهُمْ من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذَلِكَ سببًا إِلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدُّنْيَا في عيونهم ضد