فَأَطْرَقَ هِشَامٌ إِلى الأَرْضِ خَجَلاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: عِظْنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: (إِنَّ فِي جَهَنَّمَ حَيَّاتٍ كَالْقَلال ... وَعَقَارِبَ كَالْبِغَال ... تَلْدَغُ كُلَّ رَاعٍ لا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ) .
ثُمَّ قَامَ وَانْصَرَفَ.
وَكَمَا كَانَ طَاوُوسٌ يُقْبِلُ عَلَى بَعْضِ أُوِلي الأَمْرِ تَذْكِيراً لَهُمْ وَتَوْجِيهاً ... فَقَدْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ بَعْضِهِمْ الآخَرَ تَبْكِيتاً وَتَأْنِيباً.
حَدَّثَ ابْنُهُ قَالَ: خَرَجَّنَا ذَاتَ سَنَةٍ مَعَ أَبِي حُجَّاجاً مِنْ الْيَمَنِ فَنَزَلْنَا فِي بَعْضَ الْمُدُنِ وَعَلَيْهَا عَامِلٌ يُقَالُ لَهُ: ابنُ نَجِيح وَكَانَ مِنْ أَخْبَثِ الْعُمَّالِ، وَأَكْثَرِهِمْ جُرْأَةٌ عَلَى الْحَقِّ، وَأَشَدِّهِمْ إِيغَالاً فِي الْبَاطِلِ.
فَأَتَيْنَا مَسْجِدَ الْبَلَدِ نُرِيدُ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ابْنُ نَجِيحٍ قَدْ عَلِمَ بِقُدُومِ أَبِي فَجَاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
فَلَمْ يُجِبْهُ أَبِي، وَأَدَارَ لَهُ ظَهْرَه ...
فَأَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَدَلَ إِلى يَسَارِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَيْضاً فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ إِلَيْهِ، وَمَدَدْتُ يَدِي نَحْوَه وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَعْرِفْكَ.
فَقَالَ: بَلْ إِنَّ أَبَاكَ يَعْرِفُنِي ... وَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ بِي هِيَ الِّتِي جَعَلَتْهُ يَصْنَعُ مَا رَأَيْتُ ... ثُمَّ مَضَى وَهُوَ سَاكِتٌ لا يَقُولُ شَيْئاً فَلَمَّا عُدْنَا إِلى الْمَنْزِلِ الْتَفَتَ إِلِيَّ أَبِي وَقَالَ: يَا لُكَع ... تَسْلِقُ هَؤُلاءِ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ فِي غَيْبَتِهِمْ ... فَإِذَا حَضَرُوا خَضَعْتَ لَهُمْ بِالْقَوْلِ، وَهَلْ النِّفَاقُ غَيْرُ هَذَا؟!
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute