للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا نوح عليه السلام الفقير القليل الناصر الَّذِي كان ضرب ويشتم ويهان فلا يجد ملجأ ولا معاذاً ولا منقذاً ولا مجيراً من الخلق نبعت له الأرضون عيوناً والسموات غيوثاً حتَّى كان من عجيب غرق قومه ما كان. ولم يستطيع دفع ما جاء به إنس ولا جان.

ومن أدل ذلك على الله الخسف بأهل السبت من اليهود قردة وذلك مِمَّا يحصل به العلم الضروري لمن شاهده أو تواتر له، لأن تحول الصورة إلى صورة أخرى لا يكون بالطبع، ولا تدخل فيه شبهة لأهل الكفر.

وخامسها: زهدهم في الدنيا وإطراحهم للأهوى وقلقهم من هول المعاد الأخروي. وتقطع نياط قلوبهم من الخوف للعذاب السرمدي. وهو شيء علم منهم أنه جد لا مزاح فيه ولا هزل وحق لا تصنع فيه ولا تكلف. وكيف والتكلف لا تخفي آثاره.

ولا تستمر أحواله. زفراتهم كانت متصعدة، ونيار خوفهم لم تزل متوقدة، ومدامع عيونهم لم تبرح مترقرقة، وعلى وجنات خدودهم متدفقة، وعيونهم غائرة وعزماتهم باترة، وأجسادهم ناحلة، ونفوسهم عن الدنيا مائلة، وشفاههم من ظمأ الهواجر ذابلة، وألسنة أحوالهم في خطاب مولاهم قائلة:

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ نَفْسِي كُلِّهَا ... وَيَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي

كان عيسى عليه السلام دابته رجلاه وسراجه القمر، وفراشه المدر ومتاعه الشجر داره الأرض، ترى خضرة الشجر من شفيف بطنه. لا تنقص الشدائد عقدة عمه عزمه.

وكان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ يصلي حتَّى تورمت دماه ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل فقِيلَ له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبِكَ وما تأخر فَقَالَ: {أَفَلَا أَكُونَ عبدَاً شَكوراً} .

ولما أخطأ داود عليه السلام كان يبكي وينوح حتَّى نبت العشب من دمعه المسفوح، ونقش خطيئته على كفه وحزن حزن الثكلى على ذنبه. فليت شعري أي غرض يقدر أنه يحصل لهم ويظن أنه أربهم حتَّى قطعوا أعمارهم على هذه الطريقة وأداموا تحملهم لهذه

<<  <  ج: ص:  >  >>