وقال النووي: المشهور في قوله: من وراء وراء بالفتح بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤها على الضم، قال: وقد جرى هذا في كلام ابن الحافظ أي الخطاب بن صعبة والإمام الأديب أبي اليمن الكندي فرواهما ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب فأنكره الكندي وادّعى أن الضم هو الصواب وكذا قاله أبو البقاء الصواب الضم لأن تقديره من وراء أو من ورائي آخر، قال فإن صحّ الفتح قبل وقد أفادني هذا الطرف الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أمية أدام الله نعمه عليه وقال الفتح صحيح وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وشغر بغر وسقطوا بين بين فركبها وبناها على الفتح، قال: وإن ورد منصوبًا منونًا جاز جوازًا جيدًا. انتهى.
وقال القرطبي: صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين وكأنه مبني على الفتح لتضمنه الحرف كما قالت العرب: هو جاري بيت بيت أي بيتي إلى بيته فكأنه قال في الحديث من وراء وراء ونحوه خمسة عشر وسائر الأعداد المركبة ومنه قولهم: هي همزة بين بين وآتيك صباح مساء ويوم يوم وتركوا البلاد حيث بيث نحو ذلك، وقد زعم بعض النحويين المتأخرين الصواب الضم فيهما واستدل على ذلك بما أنشده الجوهري في الصحاح:
إذا أنا لم أؤْمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلاّ من وراءُ وراءُ
قال القرطبي: ولا شك في أنّ السماع في هذا البيت بالضم فيهما، ووجهه ما نبه عليه الأخفش حيث قال: يقال: لقيته من وراءُ فترفعه على الغاية كقولك: من قبلُ ومن بعدُ فنبه على أن "وراءُ" الأولى إنما بنيت لقطعها عن الإضافة، وأما الثانية فيحتمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف مِنْ لدلالة الأولى عليها، ويحتمل أن تكون الثانية تأكيدًا لفظيًا للأولى، ويجوز أن تكون بدلاً منها أو عطف بيان، وقد وجدت في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب بن محمد النهري السبي من وراءَ وراءَ بتكرار من وفتح الهمزتين، وكان رحمه الله قد اعتنى بهذا الكتاب غاية الاعتناء، وقيده تقييدًا حسنًا،