علم الله أني أراك من صفوة الإخوان، ونخبة الخلان، ووقفت على المدرج طيّه، فرأيتك قد قصدت ما لم أقصده وسبق إليك ظنك ما لم أرده، فإني لم أرد بقولي (إني لا أحفظ خلافًا في ذلك) إني لا أحفظ خلافًا في البعل والعَثَرِيّ، وكيف أريد ذلك وقد قلت لك إنّ غير أبي حنيفة فرّق بين البعل والعثري، وإن قوله: من فرق بينهما أشبه بالحديث من قول أبي حنيفة، وإنما أردت عنه، ولم أتعرض لكلام جميع اللغويين في لفظ البعل، ولو أردت ذلك لأوردت عليك ما ذكرت في كتابك وما لم تذكره، ولكني لمّا رأيتك قد رفعت (البعل) في الحديث، وصممت عليه، وسألتني عن إعرابه، إنّما أشكل عليك إعرابه من أجل اعتقادك برفع (البعل) فقلت لك: إني لا أحفظ خلافًا في خفضه. ولو صحّ عندي أنه روي مرفوعًا لم يتعذّر عليّ توجيه رفعه، ولكنّ القرآن والحديث لا يسوغ للمؤمن أن يتأولهما على ما يجوز في اللغة إذا لم ترد باللفظ رواية من أئمتنا من أهل السنة، فإذا صحّت الرواية بشيء طلب له حينئذ التأويل.
وقد تأملت الأحاديث التي ضمنتها كتابك فلم أرك حكيت عن أحد أنه روى (البعل) مرفوعًا، بل الأحاديث المشددة التي ذكرتها تدلّ على الخفض.
ولقد أوهمني كلامك أن القاضي رواه مرفوعًا، فطلبت كتابه "المنتقى"، فوجدته قد فسّر الحديث بما يقتضيه الخفض كما فعل أبو عمر بن عبد البر وغيره، وليس فيما ذكرته شيء يوجب رفع (البعل) إلا ما ذكرته عن صاحب "كتاب العين". وما حكيته من كلام عبد الوهاب فذلك ما لا يلتفت إليه، لأن عبد الوهاب لم ينصّ على أن (البعل) روي في الحديث مرفوعًا، وهذه هي النكتة التي كنا نريد أن تجدها مرويّة، فإن كنت قد وجدت الرفع مرويًّا عن بعض الأئمة المعول عليهم فاجعله رواية غريبة، وإن كنت ليس عندك في ذلك منّي أكثر من أنك وجدته مرفوعًا في كتابك، وتريد أن تخرج له وجهًا بتتبع كلام اللغويين، فأنت ترى ما في ذلك. وإن كنت رويته مرفوعًا عن بعض الفقهاء المغفلين الذين لا يفرقون بين المرفوع والمخفوض، فليس يجب أيضًا أن تلتفت إليه ما لم تجد في ذلك نصًّا لإمام مشهور قد سمعته وتكلمه في رفعه.