ما، فترى الشفاء القريب في المذهب الآخر، ويجول الإنسان بين المذاهب فيرى الصدر الرحب في الموسوعات الفقهية المقارنة، كالحاوي الكبير للماوردي، والمغني لابن قدامة، وبدائع الصنائع للكاساني، والذخيرة للقرافي، فتمتلئ النفس راحة، وتشعر بالثروة الفقهية العظيمة التي خلفها لنا الأئمة الأجلاء والسلف الصالح، وتقدر الجهد المبذول منهم، وتطمئن سريرتها إلى حسن المقصد، ونزاهة العمل، وتجرد النية لله تعالى، وتدرك تمامًا أن تعدد المذاهب كان نعمة كبرى، وأن اختلاف الأمة رحمة، وأن سبب الاختلاف أمر منطقي وعقلي وفطري، وتلمس في كل جزئية السبب العلمي الموضوعي للاختلاف فيها.
وجهتا النظر السابقتان المتعارضتان تدعواننا لبحث ومعرفة الحقيقة في أسباب الاختلاف.
ونسرع إلى القول: إن أسباب الاختلاف بين الفقهاء لا تدخل في علم أصول الفقه، ولذا نترك تفصيل هذا الموضوع الضروري المهم إلى مجاله الخاص، في مادة الفقه، أو الفقه المقارن، أو تاريخ التشريع والمدخل الفقهي، ونقتصر على بيان مكانة أصول الفقه في أسباب الاختلاف، والأثر المتبادل بين أصول الفقه واختلاف الفقهاء.
وسبق أن عرفنا الغاية والفائدة من أصول الفقه، وعرفنا الظروف التي دعت إلى ظهوره وتدوينه، وبقي علينا أن نعلم وظيفة أصول الفقه في إزالة الاختلاف وتقليله، وأثره في بيان الضوابط والقواعد والموازين لأسباب الاختلاف الصحيح والمقبول.
وقبل أن نبين ذلك نذكر بعض الحقائق الضرورية في الموضوع، ثم نشير باختصار إلى أهم أسباب الاختلاف، وخاصة ما يتعلق منها بأصول الفقه.