سبق في مطلع الباب الثالث إشارة إلى أهمية الاجتهاد، وأنه من المقرر شرعًا أن لكل حادثة أو واقعة في الكون حكمًا شرعيًّا، وأن نصوص الشرع الواردة في القرآن والسنة لبيان الأحكام محدودة، ولكن فيها إعجاز بلاغي، وشمولي، وموضوعي، وكلي لأحكام الذين عامة، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: ٣٨]، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: ٨٩]، وجاءت السنة النبوية بجوامع الكلم، وبيان الأحكام الواردة في القرآن، وبيان أسس التشريع ومبادئه وقواعده، وحددت مقاصد التشريع وغاياته وأهدافه، ليأتي العلماء الفقهاء المجتهدون لمتابعة المسيرة، التي أقرها القرآن الكريم والسنة الشريفة في مشروعية الاجتهاد التي سبق بيانها.
وكان الاجتهاد أحد المصادر الرئيسة الثلاثة التي أقرها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ رضي اللَّه عنه:"القرآن، والسنة، والاجتهاد".
وإن النصوص الشرعية -وهي الأصل والأساس- متوقفة ومعتمدة على الوحي، وقد انقطع الوحي بوفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وختمت الشريعة النضية، ولكنها أقرت الاجتهاد ليكون بابًا مفتوحًا أمام المجتهدين حتى تقوم الساعة؛ لتلبية حاجات الأمة في التشريع، وكشف أحكام اللَّه تعالى في كل ما يعرض للمسلمين خاصة، وللبشرية عامة، وإلا وقع النقص في التشريع، والجمود في البيان، وهو ما يأباه الذين، ويحمّل أتباعه مسؤولية التقصير في الدنيا والآخرة، ولذلك كان اتساع الاجتهاد ونشاطه وحركته وتطوره يتناسب طردًا مع حال الأمة الإسلامية في التقدم والرقي، والحضارة والثقافة، والحكم والدعوة، والتشريع والتنظيم، والعلم والتعليم، ونتيجة لذلك طرح فتح باب الاجتهاد في العصور الأولى، وشاع في عصر الجمود والتخلف والانحطاط فكرة سدّ باب الاجتهاد، ثم عادت الأمور إلى مجاريها للدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، والحرص على ممارسته، كما سنرى بعد قليل.