من سائر الطبقات الذين يبيّنون للناس أحكام الشرع ولو بالتخريج والقياس وغيره، ولذلك أكد السيوطي رحمه اللَّه تعالى أن الاجتهاد في كل عصر فرض، ثم بيَّن أنه لا يجوز عقلًا وشرعًا إخلاء العصر من مجتهد، وأكد كلامه باستعراض أسماء العلماء في كل طبقة ممن وصل إلى رتبة ما في الاجتهاد، وهذا صحيح ومنطقي، ونلمسه في تاريخ الإسلام والمسلمين، ونشاهده في عصرنا الحاضر، وأن الحديث الذي احتج به المانعون إنّما ذلك في آخر الزمان، وأنه من أشراط الساعة، وهذا ابن دقيق العيد رحمه اللَّه تعالى يقول:"لكنْ إلى الحدّ الذي تنتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان" وقال أيضًا: "والأرض لا تخلو من قائم للَّه بالحجّة، والأمة الشريفة لا بدَّ لها من سالك إلى الحق على واضح المَحَجَّة إلى أن يأتي أمر اللَّه في أشراط الساعة الكبرى" ونقل هذا الزركشي رحمه اللَّه تعالى ثم قال: "والحقُّ أن العصر خلا عن المجتهد المطلق، لا عن مجتهد في مذهب أحد الأئمة الأربعة"(١).
وإن تقدم العلوم، وتيسر الطباعة، ونشر أمهات الكتب اليوم يؤكد توفر أسباب الاجتهاد على من توفرت فيه شروط من التخصص والتعمق والبحث والنظر، وقد قال الشوكاني قبل حوالي مئتي سنة قبل وجود المطابع: "فإنه لا يخض على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره اللَّه للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنّة المطَهَّرة قد دُوّنت، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح، والتصحيح والترجيح بما هو زيادة عما يحتاجه المجتهد، وقد كان السلف الصالح ... يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر،
(١) البحر المحيط (٦/ ٢٠٨، ٢٠٩)، وانظر أقوال العلماء في مسألة الخلو عن مجتهد في: شرح الكوكب المنير (٤/ ٥٦٤)، والمصادر التي وردت في الهوامش، وأهمها: الإحكام للآمدي (٤/ ٢٣٣)، تيسير التحرير (٤٠/ ٢٤٠)، أعلام الموقعين (٢/ ٢٧٠، ٢٧٥)، مجموع الفتاوى (٢٠/ ٢٠٤)، مختصر ابن الحاجب (٢/ ٣٠٧)، فواتح الرحموت (٢/ ٣٩٩)، المسودة ص ٤٧٢، الرد على من أخلد إلى الأرض ص ٦٧، ٩٧، شرح تنقيح الفصول ص ٣٤٥، الملل والنحل (١/ ٢٠٥)، المدخل إلى مذهب أحمد ص ١٩١.