الاجتهاد، بل بقي الباب مفتوحًا، وإن ولجه القليلون، ومارسه بعض الأفراد.
وكانت أبواب العلم مفتوحة، والمدارس والمعاهد والجامعات والمساجد العلمية تمارس وظيفتها إلى حد ما، ومن هنا ظهر في كل مذهب، وفي كل بلد، وفي كل عصر، عدد من فقهاء المذاهب، ووصل كثير منهم إلى درجة الاجتهاد، إما لطبقة المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج، أو مجتهد الترجيح، أو مجتهد الفتيا، وأعلن كثير منهم الوصول إلى درجة الاجتهاد، ولكن الظروف والتعصب وشيوع الجمود لم تشجعه على ذلك، ولم تفتح له الأذهان، مع انتشار فتوى غلق باب الاجتهاد، وضعف الثقة بالنفس أحيانًا، وبسبب الحسد والتعصب أحيانًا أخرى.
ومن رجع إلى كتب تاريخ التشريع الإسلامي عامة، وكتب طبقات الفقهاء في كل مذهب، تيقن وجود هؤلاء المجتهدين غير المستقلين، والذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد المطلق أو المجتهد المستقل (١).
ويتأكد ذلك يقينًا بأن العصور التي عرفت بسد باب الاجتهاد هي التي ظهر فيها العلماء في كل مذهب يحققون آراءه، ويرجحون بين الروايات، ويمحصون الأدلة، ويحددون القول الراجح والمعتمد في المذهب من جهة، ثم يخرجون الآراء للقضايا المستحدثة، والأمور الطارئة قياسًا على ما ورد في المذهب، وتفريعًا لأصوله وقواعده، من أمثال الكمال بن الهمام وابن عابدين في المذهب الحنفي، والشيخ خليل والقرافي والونشريسي في
(١) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وأما قول الغزالي: وقد خلا العصر عن المجتهد المستقل، فقد سبقه إليه القفال شيخ الخراسانيين، فقيل: المراد مجتهد قائم بالقضاء، فإن المحققين من العلماء كانوا يرغبون عنه، ولا يلي في زمانهم غالبًا إلا من هو دون ذلك، وكيف يمكن القضاء على الأعصار، بخلوها عن مجتهد؟ والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبرة: تسأل عن مذهب الشافعي أم ما عندي؟ وقال هو، والشيخ أبو علي الطبري والقاضي حسين: لسنا مقلدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه، فهذا كلام من يدّعي رتبة الاجتهاد، ولم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد، كما قاله ابن الرفعة" البحر المحيط (٦/ ٢٠٨ - ٢٠٩).