القول الثاني: لا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وهو قول جمهور الأشعرية، وأكثر المعتزلة، وهو ظاهر اختيار ابن حزم رحمه اللَّه تعالى.
استدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة، منها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]، ويرد على هذا الاستدلال أن المراد به الوحي عامة والقرآن خاصة؛ لأن الاجتهاد الشرعي مأذون فيه، واستدلوا بقوله تعالى:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[يونس: ١٥]، لكن الآية تنص على عدم تبديل الوحي اللفظي أو المعنوي، وإن الاجتهاد نفسه مشروع بمقتضى الوحي، واستدلوا بأن الاجتهاد يفيد الظن مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمكنه الحصول على اليقين بالوحي، ولكن ذلك لا يعارض الاجتهاد، وقد يكون من اليقين المعنوي أن يجتهد فيما لم ينزل فيه وحي، واستدلوا بأنه لو جاز الاجتهاد له لما تأخر به عند الاستفتاء وفصل الخصومات لنزول الوحي، ويردّ ذلك أن الانتظار مشروع قطعًا لكل مفت وقاضٍ حتى يحصل على أقوى الأدلة، فإن لم يحصل عليها اجتهد، والاجتهاد نفسه استفراغ الوسع في البحث والطلب.
واستدل الجمهور القائلون بجواز الاجتهاد بأدلة كثيرة، منها أن اللَّه تعالى خاطب نبيه كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين، وأعظم المعتبرين بها، وأكثرهم خبرة بالاجتهاد والقياس، والأهم من كل ذلك وقوع الاجتهاد فعليًّا من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة عند تخييره في الأحكام، فيجتهد ويختار أحد الجائزين في الحروب وسائر الأحكام، كقتله النضر بن الحارث، وأنه استشار كثيرًا في أسرى بدر وغيرها، وقوله في عدة أحاديث:"أرأيتَ لو تَمَضْمَضتَ بماء""أرأيتَ لو كانَ على أبيك دَيْن" واستثناء الإذخر في جواز قطعه في الحرم، وأنه قال:"ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" وقال في حجة الوداع وسوقه الهدي: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقت الهدي"(١)، واستدلوا أيضًا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكمل من غيره؛ لعصمته من الخطأ، فلو جاز الاجتهاد لغيره، فلأن يجوز له بالأولى،
(١) هذه أحاديث صحيحة، وسبق بيانها، وانظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ٤٧٨ - ٣٨٠). =