التصميم في الشهادة، تناول القاضي سحاءةً بين يديه. فكتب فيها من حيث لم يره الآخر، ثم طواها وألقاها في حجره. فلما تصفحها الآخر إذا فيها مكتوب:
أتتني عنك أخبار ... لها في القلب آثار
فدع ما قد أتيت له ... ففيه العار والنار
فلم يكد يقرأها حتى قام منطلقاً. ولقي صاحبه، فقال له: النجاة. فقد شعر بنا. وقال القاسم بن محمد، كاتبه أيام قضائه بالبيرة: ركبنا مع القاضي، في موكب حافل، من وجوه البلد، إذ عرض لنا فتى، يتمايل سكراً. فلما رأى القاضي، أراد الفرار، فخانته رجلاه. فاستند الى الحائط، وأطرق. فلما قرب منه القاضي، رفع رأسه وأنشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به في العالمين فريدا
قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا
فإن شئت أن تجلد فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منّة ... تروح بها في العالمين حميدا
وإن أنت تختار الحدود فإن لي ... لساناً على هجو الرجال حديدا
فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه ولم يأمر، ومضى لشأنه كأن لم يره.