للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قابلت بين عواطف الإنسان وألفاظ اللسان! أتراك سمعت بامريء أنحله وأضناه قراءته قصة روميو وجوليت أو آخر انتحر أسفاً لما حل بامرأة عطيل من دنيسة زميله أياجو؟ وإني لأعرف من الرموز والعلامات ما هو أفصح بكثير من الكلم وأذكر حادث عن زوجة فتية السن وقفت لوداع زوجها وكان مزمعاً سفراً فلم تهيئ لموقف الوداع قصيدة ولا خطبة وإنما أعلنت بها وأبدت شكواها بطريقة أخرى - وذلك أنه امتقع لونها واكتسى وجهها من الألم الكمين والداء الدفين صبغة برتقالية، وفي الناس جانب عظيم لا يملكون من البلاغة والبيان إلا أسلوباً واحداً وهو أنهم يضنون ويهزلون حتى يدركهم الموت.

في هذه الأحوال التي تبلغ فيها العواطف أقصى منتهاها كيف يستطيع المرء القراءة؟ إن استطاعته القراءة دليل على أن إحساسه الشديد قد بدأ يفتر وأن تفكيره قد أخذ يتراخى، أنت تعجب أنى تبلغ القحة بإنسان عادي يحسب أنه قد يسموه به فكره أحياناً حتى يفوق فكر أكبر العقول - عقل شكسبير. على رسلك، وتدبر معي هذا الأمر في روية تعلم أن فرقاً عظيماً بين قراءة أحد الصبية كلام شكسبير وقراءة الأستاذين الجليلين كولوريج وسكليجل آيات هذا الشاعر الأكبر! فإذا كان ديوان شكسبير البحر الزاخر فقراءة الطفل فيه كالغرف باليد وقراءة الأستاذين الجليلين كالغوص على كل لؤلؤة بكر ودرة يتيمة، فسواء كان القارئ صبياً أو فيلسوفاً فإن ما قد يجول بخاطره ويفعم صدره أحياناً من شديد العواطف وجليل الأفكار لأسمى بكثير لا من حقيقة قول المؤلف بل من تأويل ذهن القارئ لقول المؤلف.

وكأني بمعظم قراء شكسبير تسمو بأذهانهم كلما هذا الشاعر أحياناً إلى طبقة من الإحساس والتفكير كالتي يرفعنا إليها الموسيقي. حينئذ يلقون ديوان شكسبير من أيديهم ثم يفضون إلى عالم الأفكار الذي لا يبلغ إليه اللفظ وقد نكون أنا وأنت من طائفة الأغبياء ولعلها الحقيقة إلا أن يوجد البرهان على ضد ذلك. ولكني وإياك قد ندرك أحياناً لمحة من ذلك العالم الروحاني حيث ترانا على ما بنا الآن من غباوة نمعن في أودية التفكير إلى ما وراء أبعد غايات الذهن الآدمي.

وإني أشهد أنه لتمر بي أوقات أكره فيها الكتب حتى لا أطيق أن أراها. وأحياناً أشعر أن من حاجة البدن وأسباب صحته ودوافع علته أن أنفث مكنونات الضمير قبل أن أضع فيه