شيئاً جديداً إذ أنه من أضر الأشياء أن تكتم في الضمير أفكار أو وجدانات كان ينبغي ظهورها اكتتام العلل والإدواء التي كان من حقها أن تبدو على ظاهر الجسد.
إني ما زلت أرى للحياة من جسامة الشأن وعظم الخطر مالا أراه للكتب وأحسب أن يوماً واحداً من هذه الحياة الدنيا بما بها من مئات آلاف المواليد والمنايا وما فيها من المودات والعداوات والانتصارات والهزائم والنعم والنقم - أحسب أن يوماً واحداً من الحياة الدنيا هو أوفر نصيباً من الإنسانية من كافة ما حبر وحرر من القراطيس والصحف. والأسفار والرسائل، وأعتقد أن ما يفوح للأزهار النابتة الآن على وجه البسيطة من الطيب هو لا محالة أذكى شذاً مما فاحت به الغوالي المقشرة منذ بدء الخليقة إلى وقتنا هذا.
٨
قال شاعر المائدة: وعن شمالي من المائدة كان يجلس مخلوق ما رأيت أغرب هيئة منه إلا في معرض أو متحف، لردائة الأسود لمعان كأنما خرج من أيدي الصياقله لتوه وساعته، وكان مقوس الظهر، دليل على شدة انكبابه وفرط انصبابه على دقيق من العمل، وله أطراف ضئيلة آية على قلة السعي وطول القعود، ذو مفاصل كمفاصل الجراد يخيل إليك أنه ربما نشر مطوى جسده وطفر في الهواء لا يمشي، يلبس نظارتين يقول إنهما تريحان بصره بعد كده في استبانة الدقائق واكتشاف الغوامض، لصوته صرير ضئيل كأن في حلقومه آلة صغيرة بعيدة العهد بالزيت، ولم أدر ما حرفته، فقلت خليق بالمرء أن يعرف عمل جاره، ففاتحته الحديث وفي نيتي ذلك وكان موضوع كلام الناس يومذاك انتخاباً تؤخذ له العدد، فقلت:
من ترى يحرز الأغلبية غداً؟.
قال ليس غداً وإنما الشهر القابل.
فصحت متعجباً الشهر القابل! عجباً لك. أي انتخاب تقصد؟.
قال مندهشاً أريد انتخاب الرئيس لجمعية الحشرات وفي وجهه ولهجته دليل على شدة تعجبه وإنكاره أن يكون في الناس رجل يفكر في انتخاب آخر قال شد ما اشتدت المنافسات يا سيدي بين الذبابيين والفراشيين كلاهما يرجو إحراز الرئاسة.