حوزتهم، وقد شدوا لهم هناك مساكن من الآجر الهولندي، وجاءوا إليها بالنوافذ والأبواب.
في هذه القرية، في بيت من هذه البيوت، كان يعيش منذ سنين، أيام كان الإقليم ملك إنجلترا، رجل ساذج طيب القلب رقيق الحاشية، يدعى باسم رب فنان ونكل.
وكان جاراً محمود الجيرة، وزوجاً طيعاً، يمشي عبداً لزوجه، ولعل استعباد زوجه له أورثه ذلك الاستحواذ الذي أكسبه محبة الجيران وعطف أهل القرية، ذلك لأن الأزواج الذين يجدون في الدار زوجات آمرات، عاصفات ناهيات، يروحون خارج الدار مستضعفين خاضعين، ويقبلون على الناس متضامنين محبين، فإن أخلاقهم ولا ريب تخرج من نار النكبة الزوجية مرنة لينة، ولعمري أن عتاب الزوجة زوجه حين يضمهما السرير خير من خطب الدنيا بأجمعها، وأجدى على الرجال من المواعظ التي تعلم الناس الصبر والاضطلاع بالمتاعب، ولا لجاج في أن الزوجة الشكسة المتوحشة قد تعد من بعض الوجوه نعمة طيبة، وإذا صح ذلك فإن رب كل من زوجته في ثلاث نعم.
وكان محبوباً من نساء القرية وبمولاتها الصالحات، وكن يجنحن إلى الانتصار له، إذا ثار الخلاف بينه وبين زوجته، ولم يترددن مرة إذا ضمهن حديث الليل وندوة المساء في إلقاء كل اللوم على مدام ونكل، وكان أطفال القرية يهتفون من فرح إذا لمحوه مقبلاً عليهم، وأنهم ليصيحون لمجيئه مغتبطين، وكان يحضر ألعابهم، ويقاسمهم لهوهم، ويصنع اللعب لهم، ويعلمهم عمل الطيارات وتطييرها، ورمي الحصى وتسديد رميته، ويقص عليهم قصص العفاريت، ونوادر الساحرات، وحكايات الهنود، وكلما مر بالقرية منطلقاً، أحاط به جماعات الأولاد، يتشبثون بأذيال ثوبه، ويعلتون ظهره ويتسنمون كاهله، ويمزحون معه ويضحكون منه كما شاؤوا وشاء مراح الأطفال، وإنه ليجوب منافس القرية وسبلها ويمر على دورها ومساكنها، فلا يهر إليه كلب، ولا يزعجه نباح.
وأكبر عيب فيه كرهه كل عمل يعود عليه بالكسب، ولا تحسبن كراهيته من عوز فيه إلى الكدح والدأب، فقد تراه معتقداً عند ضفة النهر صخرة ندية رطبة وفي يده قصبة أشبه شيء في طولها وثقلها برمح الترتر، وكذلك يمضي في صيد السمك يومه، لا يمل ولا يسأم وإن لم تشجعه سمكة واحدة. وإنه ليتنكب بندقته الساعات الطوال متنقلاً بين الغاب والإجم، متروحاً بين المستنقعات والأكم، طالعاً الجبل، وهابطاً الوادي، في صيد بضعة حمائم أو