للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المدهشات واقتصاص الأعاجيب لا يتوخى في ذلك سوى اللذاذة وتفكهة النفس أما الآن فوظيفة التاريخ هو التعليم في قالب حلو شائق وعرفوه بأنه الفلسفة تعلم الناس بالمثال والتجربة في أسلوب جميل وكذلك ترى أن أكبر صفات المؤرخ أن يجمع بين ملكتي الخيال والحكمة أي أن يكون شاعراً وحكيماً معاً حتى يأتي كلامه فلسفة في صورة قصص خلاب يأخذ بمجامع القلب فإن استبدت فيه قوة الخيال خرج قوله خرافة وإن ذهبت به ملكة الفلسفة جاء كلامه نظرية وكلاهما انحراف عن المحجة

ولقد درج المؤرخون قديما وفي الحديث على أن يقصروا كلامهم على الأمراء والقواد وما يكون في قصور الملوك ومواطن الحروب كأن ذلك هو كل ما يوجد في أرض الله الطويلة العريضة وكأن ليس في العالم إلا القواد والملوك وإلا حفلات القصر الملوكي ودسائس البلاط وإلا صليل السيوف وصهيل الخيل وقعقعة المدافع وإراقة الدماء وغاب عنهم أن بعيداً عن هذه المواطن يتدفق نهر الفكر وبحر الإنسانية الطامي في مجراه العجيب طوراً في ظلمة وتارة في ضياء وانتصر الجيش أو انهزم ونجحت المكيدة أو خابت كل ذلك عنده سواء وأن هنالك عالما من الإنسانية يزهر وينضر ويثمر في شمس السعادة والرخاء أو يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء فمن اللائق بالمؤرخ النافع ولا سيما في هذه الأجيال أن ينصرف عن وصف الأفراد ونعت ماكان من الحوادث ليس له الأثر العظيم في تعديل هيئة المجتمع وتحوير حاله - إلى وصف المجتمع نفسه وتحليل أجزائه وفحص مكينته حتى يصبح القارئ منه كالذي ينظر إلى دخيلة مكينة ساعته لا كالذي يظل من ذلك على جهل ويكتفي بسماع الدقات.

والحق أقول أن من دقق النظر وجد أن أجهر الحوادث التاريخية صوتاً وأعظمها جلبة ليس في الحقيقة شيأ وإنما أخطر الحوادث وأشرفها ما وقع في سكينة وصمت فإن الشجرة العظيمة تحطم فتدوي لهول مصرعها أنحاء الغابة وتبذر كف النسيم ألف حبة فلا تحس لذلك أدنى حركة وكذلك الحروب والوقائع وضجيج الفوارس وقعقعة السيوف تصم الآذان ساعة كونها وتدير كأس الفوح فريق وقدح الغم على آخر ثم لا تلبث أن تزول كأنها لم تكن فهي كالأعراس والمآتم.

* سحائب صيف عن قليل تقشع *