للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وبعد فعلى المؤرخ إذا أراد أن يكتب تاريخاً نافعاً أن يطرقه من جميع أبوابه ويتسرب إليه من سائر وجوهه وهي (١) الوجه السياسي وهو ذكر إدارة الحكومات وعلاقاتها من حروب ومعاهدات و (٢) الوجه الديني وهو أهمها من حيث أنه يهمنا من صلاح سريرة الإنسان وطهارة نفسه أكثر مما يهمنا من صلاح جسمه وصحة علانيته لأن الأصح جسماً لا يعدو كونه الأشد قوة وأمناً والأمن والقوة وحدهما ليسا من الخير المحض والسعادة الصريحة في شيء إنما الخير المحض في التقى والإيمان وكذلك كان الأمر الأهم للإنسان هو العقيدة التي يراها ما يرجى أن يبلغ من مراتب الفضل في الدين لا مذهبه السياسي ومبدأه الحكومي وعلى المؤرخ الديني إذا أراد أن يبلغ الغاية أن يعدل بنظره عن مصطلحات الملل والنحل وظواهرها إلى أعماق سرائر الناس يستشفها من وراء أعمالهم وأقوالهم فيعلم في ارتقاءهم أم في هبوط وانحطاط و (٣) الوجه الفلسفي وهو آراء الإنسان ونظرياته في ماهية خلقه وخلُقه وفي صلته بالكون الظاهر والخفي - وهذا النوع من التاريخ إذا صلح فرع من التاريخ الديني لأن الدين والعبادة جسم يجب أن تكون روحه الفلسفة وقدماً كان الفيلسوف والكاهن رجلاً واحداً: ولكن الفلسفة قد انحرفت عن هذا الطريق وما كان بين المؤرخين من عمل على تقريب المسافة بين المذهبين حتى أصبحت عبادة آيات الله (الدين) وفحص آيات الله الفحص العلماني (الفلسفة) يسيران في منهجين متباينين و (٤) الوجه الأدبي والشعري وهو تأثر الإنسان ببدائع صنع الله من حيوان ونبات وجماد وكيف يتغير هذا التأثر بتغير الزمان والمكان وكيف أثر في النفوس والطباع رقة وتهذيباً وتثقيفاً وتنويراً وما حدث عنه من التطورات والانقلابات والثورات وكيف أن وجود الشعر والأدب وغيرهما من الفنون الجميلة في أمة ما كان يهذبها ويرفعها ويقربها درجات من الله ومن عيشة الملائكة وإن عدم وجوده كان يضع الأمة ويتركها تدب كالحشرات على مساحف الجهل في هواء ملم قفر من النغم والألحان: ويلي ذلك الوجه التشريعي وهو ما يبحث في وضع القوانين والشرائح وهيئات الحكومات ثم الوجه الطبي والرياضي والفلكي والتجاري والصناعي - هذه هي أركان التاريخ الصحيح التي يجب على من يتعرض لتاريخ أمة من الأمم أن يوفيها حقها من البحث والتحليل وإلا فليس هناك تاريخ وإنما هي أرقام وتقويم أيام.