للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عملهم بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها. وهم كالحصى عدداً وكثرة وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه وإلا نفر قليل معه لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مقادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم، فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة باجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها وهذا هو نفس الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في الجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح حتى نصروا بالرعب وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم وتعد المراصد لعدوهم من نفسه وتسلبه مالا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا ويريد أعداؤهم لآأ، يحيوا فيموتوا. وإلا فأين تقع تلك الشراذم العربية القليلة من جيوش الروم والفرس وهي فيها كالشامة في جلد البعير لو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها؟.

على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة فلم يجمعوا كيدهم ولم يصدمونه بل استأنوا به ولبسوه على مره وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة. وليس في ذلك سبب وراء القرآن فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي وتخذلهم في أنفسهم فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة، ويكسر ذلك عليهم أمرهم فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة وعزائم واهية وأمور منتشرة وخواطر متقسمة وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه وكان عبرة لغيره حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى فمن سكن بعدها فقد سكن.

نزل القرآن على الوجه الذي بيناه فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات كما يعتري