للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علواً ونزولاً على حسب مالا بد منه من اختلاف المعاني وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب متربصون به حالة من تلك الأحوال فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية وجمرة متوقدة وأمر فوق الأمر وكلام يحارون فيه بدءاً وعاقبة.

وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ثقة منهم بقوة الطبع ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة وهم مجبولون عليه فطرة ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم. فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي. فإن حكمة هذا التحدي وذكره فيه إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولد أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله وأنه غير معجز وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية.

أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مغتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة وليس إلا النظم والأسلوب وهم أهل اللغة ولا تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . . ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفخ الرماد الهامد فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فقطع لهم أنهم لن يفعلوا وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله ولا يقولها عربي