في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا همهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعة وأخطروا بأنفسهم وأموالهم وانصرفوا عن توهين حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا ساحر وشاعر ومجنون ورجل يكتب أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات تلميحاً كما تقدم وتصريحاً كقولهم أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق لأنها أعراق ضاربة في القلوب ملتفة بالطبائع وخاصة في قوم كالعرب كان أمر الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف وكانت العادة عندهم ديناً حين لم يكن الدين الإعادة.
قال الجاحظ: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف وننصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق