انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان: وما القوى في إرادته إلا من يكون لنفسه قانوناً وشرعة ونظاماً: يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك: وعمل بأمرتك وإرادتك: وخضع لسيطرتك وسلطتك: عطل فيه الإرادة التي تحركه: وأفسد على الله الميكانيكية التي ركبها فيه لتسيره: وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قل ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطلب في تربته: وإنك أن تظفر من القوم برجل قوى الإرادة. فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها: ومن ذا الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة من ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي: وقليل هم.
ولا يغيب عنك قوة منطقة وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته. قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح الحرب: وتجمعه بهم ميادين القتال.
ولد سعادة سعد زغلول باشا بناحية أبيانا من اعمال مركز فوه عام ١٨٦٠: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخاً أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية. استمد وقوده من اللحم والدم. وأنت فلا ترى رجلاً نابغة إلا وجدته أبداً أكبر من عمره الحقيقي. حتى أنك لتلقى الشاعر العبقري - والشاعر أحر خلق الله روحاً، وأكثر علباد الله توهجاً - يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور. وهو لا يعدو أن يكون شاباً في مقتبل العمر وحداثة الشباب. ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر. كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره.
فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوال خمسة أعوام. ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوده علي الشيخ عبد الله عبد العظيم. وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق. ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلاًَ بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقي فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم