للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل. ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارك زمناً طويلاً ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا. فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعاً لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضاً شكر الجيل الحاضر. وعلينا أن نعترف علناً ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى. وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل. ونابغة فقدناه آسفين. فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعاً.

إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه. كان يحمل نفساً على قوتها الهائلة رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها. وهيهات أن تبقى طويلاً أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها. وهيهات أن تبلغ مني. كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.

تعلم فتحي فصادقت القواعد العلمية من عقله مقاماً رحباً وقرت فيه أصولها ووجدت منه نفساً طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديه صوتها الخفي: إن وف حق العلم. وآت زكاة النبوغ فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير. أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الأقدام: زكاة مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة وقلم سيال ومركز نبيل. كيف لا يكون مقداماً من جمع بين كل هذه الأسباب.

لا أكاد أبريء فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو التعريب وأيهما أنفع. وإذا كان التعريب فعلي أي نوع يقع الاختيار. حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تضطرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.