البلد الخصيب أكبر قسط من حياتنا، تقوم عليها كل مصادر الثروة، ويتوقف عليها مجموع كيان الأمة، ولذلك كان العامل على تنميتها وتحسينها، وحمايتها من أيدي الأجانب، أفرادهم وشركاتهم هو العامل على بقائنا، وتقوية مكانتنا وتحسين أحوالنا.
هذا وإن الزراعة مهنة طبيعية، نشأت مع الإنسان الأول، وتطورت بتطوره، وتقدمت بتقدمه، بدأت قبل الصناعة والتجارة، والسياسة والفلسفة والكتابة والعلوم والآداب، بل إن هذه جميعاً تنهض فوق الزراعة وعليها تعتمد، ومنها تغتذي، وبها تستقيم.
بل للزراع أن يفخر على التاجر، ويطول على الصانع، والعامل والمخترع، لأنه يأخذ من تقسيم العمل أكبر الأقسام، إذ هو المثمر والناس بعد مستغلون، وإن من عمل يده، وجهد قواه، تنال الإنسانية طعامها، وكساءها، وكنها، والناس وإن كانوا لا يحبون الشاق من الأعمال، ويكرهون منها المرهق المعنت، إلا أنهم يشعرون من صميم أفئدتهم باحترام الحرث والغرس. وحب الزرع والحصيد. ويعدونها المهنة الطبيعية والحرفة الفطرية لنوعهم. ويعتقدون أن الذين لا يشتغلون منهم بالزراعة، إنما أعفتهم الظروف منها: فجعلتهم ينيبون عنهم في القيام بسهمهم منها أيدي غيرهم. وقوى طبقة منهم.
وحسب الفلاح إن الجيولوجيا منذ شباب العالم، في خدمته، وإن الكيمياء الطبيعية، منذ أول الخليقة في معونته، خدامه النهر والجدول. والحشرات النافعة تأكل الحشرات القاتلة. ومواليه الجو وتغيراته. والسماء وأمطارها. والأرض وأسمادها. والتربة وأملاحها.
والفلاح محسن خالد، يحفر على الطريق بئراً، ويشيد بجانبه سقفاً، ويزرع الشجر وارفة ظلاله، ويقيم عرشاًَ من ورق الأعناب، ومظلات ناضرة من الريحان واللبلاب، فإن لم يستطع، وضع على الثنية حجراً، يعتقده الضال، ويجلس عنده المتعب والكال، ينشئ بذلك ثروة كبرى، يذهب وهي باقية، جليلة النفع نقريته. عظيمة الفائدة لبني بلدته.
ولأخلاق الفلاح وآدابه، بساطة مظهره وثيابه، تنبوبه باحات القصور، ولا تنبوبه باحات الطبيعة، والفلاح أروع أيكون في ساحة حقله، دائباً وراء محراثه، مقتلعاً ضعيف أعواده. والطبيعة لا تميل إلى الزخارف، ولا تعرف الزينات، ولذلك تشرق في كوخ الفلاح، وتتزاور عن قصر الأمير، لأنها لاتجد في الثاني إلا تقاليد لعملها، وقوالب صناعية على مثال قوالبها، ولا ترى في الأول إلا مصنوعاتها، كيوم خرجت من يدها.