للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العصور الأخيرة وقد ألغيت وعفت آثارها. فليس من معتقدات هذا العصر وتعاليمه أن الكرة الأرضية هي مركز الكون ولبابه وسره. وأن الإنسان هو أقصى غية الخلقة ومنتهى مطمح الطبيعة وأن القمر ما أشرق إلا لينير حنادس ليلنا والنجوم ما انتظمت إلا لتنتثر في دواوين شعرائنا. على أنه لا يزال بين طلاب الفلسفة من يتمسك بهذا الرأي المأفون فيرمي الطبيعة بالسفه والحمق بحجة أن ذخيرة الفحم الحجري ربما نفذت يوماً ما من المناجم وأن بركان فيزوف قد أهلك جما غفيراً من الخلق وفيهم الفتيان والفتيات في ريعان الشباب وزهرة العمر. وأن آنسة أورليان أحرقت بالنار حية وقائد الأسويج جستاف أدولف قتل في واقعة لوتزين في أوج انتصاره وأن الحسناء المليحة كثيراً ما تقضي نحبها على فراش النفاس وتترك الفرخ الضعيف لا كفيل ولا حاضن.

وإذا كان من حق الإنسان أن يعتد محنه وبلاياه دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها فلماذا لا يحق للمكروب أي الجراثيم (البكتيريا) مثلاً أن تعد ما ينالها على يد الإنسان من المصائب دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها أيضاً، أرأيت لو أن للجراثيم فكرة فلسفية إذن لشد ما كانت تسخط على العالم وتمقت الطبيعة! وحقاً إن الدنيا هي حسب نظرها فاجرة لئيمة تزداد على ممر الأيام جوراً وطغياناً، فالمكانس الفظة والمذاود الشديدة البطش والأكسجين الغليظ الكبد والماء الساخن الفتاك تتآمر جميعها على إزهاق أرواحها وكل ما فيه رزقه وبقاؤها يزال فيلتف، وما أن يزال هلا من حامض الكربونيك عدو يحارب الحياة في أجسادها ويترك حركات المرح والنشاط منها رجات نزع ورعدات حمام يستوي فيها من هذه الجراثيم البار والفاجر والطيب والخنيث، وترانا مع ذلك نعد هذا العمل الذي تراه البكتيريا أو ما من الكون وطغياناً من الطبيعة نعمة كبرى وعملاً صحياً جليلاً جديراً أن يفخر به ويهنأ عليه.

وإني لأكاد أتخيل ذبابة من ذلك النوع الذي يعشق النفوس المحفورة في بعض أصناف العملة وغيرها من النقوش والتصاوير (وعشق بعض الذباب للصور ولرسوم هو ما تشهد به ربات المنازل ومدبرات البيوت) - أقول كأني بإحدى هذه الذباب قد صادفت في بعض رحلاتها ذلك التمثال الجسيم. تمثال بافاريا فماذا تري يكون موقفها إزاء هذا البناء الضخم وماذا تكون حيرتها وتعجبها وماذا يكون إنكارها واستهجانها؟ لاشك سترى الذبابة في هذا