للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الخيال. ودقة الشعور. وقوة الملاحظة.

فإذا نحن أردنا أن نتلمس هذه أو بعضها في هذه الطائفة التي اصطلحنا على تسميتها بالأدباء فما نحن واجدون ثمت أثراً لها، بل لرأينا أكثر أدبنا، أو ما نسميه أدبنا، خلواً من روح الفن، وإذا افتقرت الآداب إلى هذه الضرورية الأولى فلن تعد من الآداب في شيء، بل هي في الحقيقة ليست إلا وسائل يستعان بها على العيش، ومطالب الأكل والشراب، للذين خابوا أن يجدوا في الحياة غيرها، وهي إذ ذاك مهنة تسد جوع الجائعين وتطعم أفواه الضعفاء في الحياة العملية والمهزومين، لأن الكتابة والشعر وسائر الفنون الرفيعة ليست تعتمد في كل روحها على مستلزمات الحرف والصنائع من وجوه التعليم والتمرين والحفظ والرياضة وممر الزمن، وإنما هي تتغذى قوتها من إحساس داخلي عميق يولد مع الشاعر والكاتب والأديب والمصور والنحات، وما كان الكتاب والشعراء في هذا البلد إلا يتابعون في افتقارهم إلى روح الفن، سائر أفراد الأمة، لأننا جميعاً مفتقرون إلى روح الفن، فلو أنت زرت قصوراً أكبر أغنيائنا وأهل الرقة والترف فينا ونظرت إلى الصور الأنيقة التي تشرف عليك من جدران حجراتها والنقوش والرسوم والنفائس التي ترنو إليك في مقاصيرها، إذن لأدهشك النُّبُوّ الظاهر في الترتيب وفساد الذوق البادي في التنسيق، على نفاسة الأثاث، وفخامة الرياش، وغلاء أثمان المتاع، وذلك لأن الجمال كما يقول الإفرنج ليس في الصورة وإنما في كيفية تعليقها ووضعها، وكذلك نحن من الغني إلى الفقير فقراء من روح الفن ورفعة الذوق.

ثم يلي هذا افتقارنا إلى سمو الخيال، ولا يزال أكثر أدبائنا وشعرائنا يستمدون تخيلهم الشعري من صور الماضي ومحسات العصور الذاهبة ويستعينون بأثر من روح العرب في كل المواقف الشعرية وأشباهها، وليس سمو الخيال إلا دليلاً من دلائل صفاء الذهن وخصوبة الخاطر ونقاء الروح ولطف الشعور ونحن لا ننعم بشيء من هذه لأننا نعيش عيشة مريضة بلهاء فاسدة ونعاني في البيت والشارع ضروباً من الانحطاط والفوضى سائدة، ولأن حياة أدبائنا - صَنَع الله لهم - إنما هي سلسلة متطاولة من معاسف العيش ومنغصات الهم والفقر والتشرد والإهمال، وهذه أدعى إلى أن تبدد صفاء الذهن، وتضعف حاسية الروح، وتفسد صحة الذهن وتطفئ شعلة الإحساس ونحن من جرَاء هذه جميعاً