للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فقراء في قوة الشعور والملاحظة. وقوة الملاحظة من أكبر الأسباب التي تعمل على تهذيب الآداب وتقدمها ونمائها لأنها تفتح أبواباً شتى من البحث وتحدو إلى نواح طيبة من التفكير، وتفضي إلى مطارح بعيدة من الاستنباط والاستنتاج، ولهذا كان الأدب المصري خلواً من أسمى فروع الأدب المنتعش الصحي المتحضر، وهو فن الرواية والقصص، وهو قد أصبح في الغرب جماح علومه وأدابه وفلسفاته ومبادئه، لأن فلاسفة العصر وكبار الأدباء والمفكرين من أهل الغرب آثروا اليوم أن يضعوا أفكارهم وفلسفتهم وآراءهم في أساليب حلوة من الرواية وموضوعات سهلة من القصص، حرصاً عليها أن تروح مستثقلة على أذهان الجمهور مستغلقة الفهم باردة الروح، مستكرهة الطعم، فترى أمثال برناردشو وويلز وبورجيه وأنا طول فرانس وأضرابهم يعدون في طلائع الروائيين وهم مع ذلك من أكبر المفكرين والفلاسفة.

على أن من طبائع الفوضى التي ركبت في نفوسنا وتأبى إلا أن تظهر كذلك في أدبنا أن أدبائنا وكتابنا ليسوا إلا نَشَراً لا يجمعهم نظام، ولا تحكمهم قاعدة، فهم لا يحورون ناحية من المذاهب المقررة إلى مذهب ثابت، ولا يرجعون إلى منحى معروف وأنت فلا تستطيع أنتحصر من بينهم الفريق الذي يذهب في الكتابة مذهب الرياليزم وهو المذهب التقريري الذي يعمد فيه إلى بسط الحقائق على علاتها دون تحلية أو تهذيب أو تجميل، ولا أن تعرف من بينهم كتاباً إيدياليين، وهم الذين يجنحون إلى السمو في أطباق الإيدياليات، وهي الأمثلة العليا للحياة، وأنك لترى الكاتب منهم إنما يخرج لك في المقال الواحد خليطاً من الجميع، فبينا تلتقي بقطعة من الرياليزم إذ تهاجمك الفقرة التي تليها بروح الإيدياليزم، وهذا ضرب من الفوضى، وعلة من علل التقلب. وعارض من عوارض كراهية المصري لروح النظام.

وإذا وعيت هذا ثم علمت أننا لم نأخذ بعد بنصيب من العلم الحديث، وأن نصف أدبائنا وشعرائنا لا يعرفون لغة من لغات الغرب، بل هم يسكنون في دواوين الشعراء الذين تقدموهم ويعيشون في بُرد الكتاب الذين سبقوهم وهم بعد لا يستطيعون أن يستمدوا منها شيئاً غير حظ من الأسلوب، وجملة من موفق اللفظ، وطائفة من بدائع الكلم وهذه ولا ريب لا تخلق الأديب، ولا تنضج الشاعر، ولا تفتق الذهن، ولا تفتح مغاليق الفكر، وإنما هي