والمكتشفات وتغلغلت جميعها في حياة كل فرد منا ونفذت إلى صميم عيشه، وأثرت أكبر الأثر في أعصابه وقواه، فإن البخار والكهرباء في أيامنا هذه قد غيرا حياة الفرد كل التغيير وطمسا معالم العيش الذي كان يعيشه آباؤنا وأجدادنا، والآن دعنا نقارن بين حال العالم منذ أكثر من سبعين سنة ثم حاله منذ عشرين سنة.
فقد كان في أوروبا عام ١٨٤٠ ثلاثة آلاف كيلو متر من السكة الحديد فأضحت في سنة ١٨٩١ ٢١٨ ألف كيلو متر وكان عدد المسافرين في هذه السكك الحديدية عام ١٨٤٠ مليونين ونصف المليون فلم تكن سنة ١٨٩١ حتى أضحي ٦١٤ مليوناً، وكان مجموع الخطابات التي دارت بين ممالك الغرب في سنة ١٨٤٠ هو ٩٢ مليوناً من الرسائل، وذلك بخلاف الرسائل الداخلية التي دارت بين سكان المملكة الواحدة، فلم تكد تقبل سنة ١٩٠٩ حتى صارت ٢٧٥٩ مليوناً، وكان في ألمانيا ٣٠٥ من الصحف اليومية سنة ١٨٤٠ فصارت ٦٨٠٠ في سنة ٩١، وكان منها في فرنسا ٧٧٦ فصارت ٥١٨٢، وكان في انجلترا منها سنة ١٨٤٦ ٥٥١ صحيفة فأضحت ٢٢٥٥، وناهيك بعد هذا بإحصائيات المطبوعات والمؤلفات وحركة المطابع والمكاتب، فإذا كان ذلك كذلك منذ أكثر من عشرين عاماً فليتصور القارئ مقدار النمو المدهش الذي حدث في هذه الأرقام إلى يومنا هذا، ولا يفوتنه أن يتبين لنفسه النسبة بين حال الغرب من هذه الوجوه وبين حال مصر، فليست هذه إلا صورة مكبرة لازدياد نسبها عندنا، فقد كادت السكة الحديدية اليوم تشبه في هذه البلاد خيوط الشباك ونسيجها، وأضحت مصلحة البريد أكبر من قبل وأكثر عملاً وفروعاً وحركة ونشاطاً، وكثرت عندنا كذلك المطابع والصحف والكتب والمطبوعات.
ومن ثم كان هذا النمو المدهش المسرع وهذا التغير المطرد في وسائل الحياة يتطلبان من الفرد في هذا العصر نشاطاً أشد من قبل، وحركة أكبر، وعملاً أكد، ونصباً أطول، لأن هذه الصحف المتكاثرة تريد كلها أن تقرأ، وهذه المجلات والكتب والمؤلفات ومستخرجات المطبعة والمكتبة تريد أن تطالع، وهذه الرسائل العديدة يجب أن تكتب، ومصالح السكة الحديد والبريد والتلغراف تريد كلها أن تأتي بإيرادها وأرباحها، ثم أن للفرد فوق هذه مشاغل العمل الذي يرتزق منه ومطالب الأكل والنوم وجميع حاجيات العيش، حتى لقد أصبح لساكن القرية الصغيرة في الغرب اليوم من مشاغل السياسة وموضوعات الصحف