والتجارة ما يزيد على مشاغل حاكم ولاية من الولايات الكبرى منذ مائة عام، فهو يريد أن يفهم مجاري السياسة في مملكته وفي كل دول العالم وأقطاره، ويهتم بآلاف الحوادث التي تجري في أنحاء الأرض وأركانها، يهتم بالقراءة عن ثورة في تشيلي، أو تمرد في إفريقيا، أو مذبحة في الصين أو مجاعة في روسيا، أو مظاهرة في إسبانيا، وقد أصبح الطاهي في الغرب يرسل من الخطابات والرسائل أكثر مما كان يفعل الأستاذ في الجامعة قبل هذا العهد، وأصبح التاجر الصغير يسافر أكثر مما كان يفعل الأمير.
وهذه المشاغل الكبيرة، حتى التافه منها، تجهد ولا ريب الجهاز العصبي وتضعف الأنسجة وتنحلها، فإن كل سطر نقرأ أو نكتب، وكل وجه نبصر، وكل حديث نتحدث، وكل منظر نشهد من خلال نوافذ القطار الطائر، تحرك فينا أعصابنا وتؤثر في مراكز مخنا، بل إن أقل هزة من القطار - وإن لم نشعر بها - والضوضاء الدائمة المستمرة، والمناظر المتتابعة التي تأخذ أعيننا في شوارع المدينة الكبيرة، وترقبنا للحوادث الهامة الخطيرة، وتلهفنا الدائم على موعد ظهور الصحف، ومجيء ساعي البريد، وقدوم الأضياف والزائرين تكد في أذهاننا وأعصابنا وتهيجها وتضعفها، ولقد أصبح الرجل المتحضر اليوم يؤدي من العمل أكثر مما كان يطلب إليه أن يعمل منذ قرن بمقدار يتراوح بين خمسة أضعاف وخمسة وعشرين ضعفاً.
وأنت ترى أننا على فرط ما نتعب وننصب ونجهد أعصابنا وأذهاننا لا نتناول من الطعام ما يزيد في كميته وجودته عن مقدار طعامنا منذ خمسين سنة إلا الشيء اليسير ولكن هذا المقدار لا يكاد يوازي المتاعب التي تتطلب منا اليوم، ولو أنا عنينا بالطعام واحتفلنا له وأخذنا منه أجوده نوعاً وأكثره مقداراً، لما أغنى عنا ولا أفادنا لأننا لا نستطيع له هضماً، فإن معدناً لا نستطيع أن تمشي مع متاعب أذهاننا وأعصابنا، ومن ثم كنا نسوق بأنفسنا إلى عسر الهضم وأخطاره.
وكان من هذا التعب الذهني والإجهاد العصبي أننا اكتشفنا في السنين الأخيرة عدة من الأمراض العصبية وسميناها بأسماء محدثة، ولا يذهبن أحد إلى أن هذه الأمراض الجديدة كانت موجودة في العالم قبل أن يهتدي إليها وأننا إنما كنا عُمي البصائر عنها، فإننا إذا كنا لم نعثر بها فإنما لأنها لم تكن قد وجدت من قبل، ولأنها من نتائج العصر وويلات الجيل