للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الشمس مشرقة من مكمنها، تنظر إليّ وتطالعني في إشراق وانتعاش وبهجة، تفتح لي طريقي بين المنحدر والهاوية. . . إن قلبي ليخفق إذ ذاك في ناحيته، وإن دموعي لتطفر من مختزنها، وإني لأسير متفتح الأذن، منتشر الذراع، مسرعاً كالمجنون موسع الخطى، أسير كأني أبصر ظل الله في ظل العاصفة، وكأني أسمع العظيم في زفيف الريح ورجع أصدائها، وما أشدني إذ ذاك بهجة وما أحرني حباً للطبيعة ووجداً، وما أبعدني إمعاناً في قلبها وصميمها.

تلك كانت لحظات نعمة أين لي بوصفها، تلك كانت برهات غبطة أدمع الله كأسها، أشعة مراح، وظل نعيم، يخلطان بين الحياة وبين الأبد. . . أن روحنا لتذكرها فتمر بنا الذكرى كخطرة مسرعة في حلم مسرع مبعد. . . يا الله. . . لقد ذقتها فما شككت في أن نبعة من نبعات الأبدية ما أن تزال تتدفق في هذه الأرض وتسح وتفيض.

والآن. . وقد قامت بيني وبين العالم تلك الجدران الشاهقة، التي شادها الإيمان ورفعتها القرون والأجيال، والآن وأنا أطوف في رفق وصمت بأجنحة الدير البعيدة. . . هذه الجدران المعتزلة الجامدة الصليبة، بيت الله ومسكنه ومقامه، حيث يعيش السكون والرهبة والجلال والأبد، وضياء المساء ينتشر فوق زجاج النوافذ آخر أشعته، وفي المحراب نار مشبوهة تسطع كالعين المشرقة في ظلمة الليل، وصوت الناقوس يتبدد في نعومته ويتشتت، وأنا أعتمد جبيني بعامود من أعمدة الدير فأسمع من جوفه صدى متردداً فيه متمشياً يهتز كما يهتز مفتاح العود الطروب الشجي، وإني لأرسل بصري في فضاء هذه الدار فأحس في فراغها كأن أذنا تصيخ إليّ وتستمع، وكأن صديقاً خفياً يشارفني في صحن الدير وباحته، يستهويني إليه ويجتذبني، وإنه ليكلمني في لغة غريبة، لا يقع معناها إلا للروح، ولا يدركها إلا القلب، وأنه ليخاطبني في أعماق صمت مرسل منشور وأنه ليحتويني في صدره ويواريني، وركبتاي عاطفتان على أرض الدير راكعتان وأنا أنشر على عيني طرف قبائي كالمبهوت المذعور، أسكن إلى ظل الرحمن العظيم، أنصت له واستمع، حديثاً روحانياً لا تستطيع كنهها لغات هذه الأرض، ولا تعيها بابل ألسنتها.

وكذلك يسلخ الليل ساعة فساعة. . والآن وقد أقفلت أبواب هذا البيت المقدس ومنافسه، وأنا أبتعد عن موقفي في رفق وتؤدة، أمسح بيدي الباردة القطرة المتحيرة فوق جبيني من دموع