هنا هبط الشتاء متعجلاً باكراً قل زمن مهبطه، وقد انتشرت فوق جسم الأرض أكفانها، والرياح من حولنا ترمي بآكام من الثلج الأشهب. . . الله لنا، ورعيا للصخرة التي تضمنا، وبركة للثغرة الت تكنفنا وتعصمنا، فالآن لم نعد نستطيع أن نخرج من ظلمة كهفنا ومنفنانا، ولم نعد نتبين الوديان من القمم التي كانت تعلوها، والذوائب التي كانت تزينها، ولا جسور الصخر التي كانت تحوطها، ولا الروابي التي كانت تسامي وهادها ونجادها، وقد حجب الطوفان المتجلد مناحر الجبل ومنافسه، وعواليه ورؤسه، وسهوله وحزونه، وأن الظبي ليرتجف مثلنا ويرتعش، لا يفارق الكهف ولا يخرج إلى الجبل كما كان يفعل متوثباً ممراحاً لاعباً، وقد سمت على القنطرة التي تعوج بالجبل إلى الوادي ركام من الثلج شماء عالية، ونحن الآن في جزيرة لا تبلغها العين، ولا يشارفها البصر، مسجونين حتى مرحل الشتاء وهجرته. . . يا الله لشد ما أحييت أيام الشتاء وأشهره، إنه لتذكرني بحال الأرض وتعلّمني أن القلب لينزوي وينكمش إلى دفئه، ويمسك عليه في هذا الموت الأصغر مهجته، وعصارة قوته، مقتصدها للربيع الرنوان الجميل، وعلائل نسيمه السجسج الساكن، ليجري فيه أخف من قبل نشاطاً وأشد روحاً، أن الروح المنزوية في خلاله المنقبضة من جهامته لتخرج عند الربيع من حجبها ووسائدها هاربة من هدأة المشتى وظلماته ومحازنه وما الشتاء للروح إلا كالملح للطعام يرفع شهوتها ويصلح مذاقها ولقد كنا ننعم إذ نحس بأننا نحب، ونشعر بأنا نعيش، بينا كل شيء في الطبيعة يحتضر تحت الجليد ويموت. . .
ولكن ما لبث أن عدا على هذه السعادة المعسولة ظل من الحزن. . . إذ وقع للورانس حادث مزعج ألقاه جريحاً مريضاً، فدأب جوسلان على تطبيبه والعناية به، وأسكنه لم يلبث أن اكتشف أن لورنس ليس إلا فتاة، فثار فيه عند ذلك إحساس مخيف، يمتزج فيه الرعب بالخجل، وكان إخفاء لورانس جنسها عن أمر من أبيها، واشتدت الحيرة بجوسلان، وتملكه الاضطراب، ولكنه ظل يحوط لورانس بالحب والعطف والإجلال. . .