ونحن مدينون له (كما قال السير جون لبك في كتابه بدائع الطبيعة) بتوسيع دائرة مشاهداتنا فنرى غير ما تراه العين العارية من الدقائق المتناهية في الصغر والجلائل المتناهية في الكبر ما ترفع الحجاب عن الأنبوبتان السحريتان - المكرو سكوب والتلسكوب.
هذا السعي الدائم من كل الناس نحو الإحساس بما تحتويه المحيطات من بديع الخلق غير محس النتيجة عند الأكثرين ولكنك تراه ظاهراً وأضحاً عند الإنسان كلما ارتقى في الإنسانية وصار أوسع علماً بنفسه وبغيره ولاشيء أدل على ذلك من أن كل الذين اتفقت الإنسانية على تسميتهم عظماء الرجال مهما كانت مشاربهم ومذاهبهم لهم تعلق خاص بكل أنواع الجمال أو ببعض منها وإذا كان هناك من يستثنى من هاته القاعدة ممن جازف الناس في تسميتهم عظماء وكانوا لا يحبون الجمال فهؤلاء إن حللنا نفوسهم ودققنا بعض الشيء في تاريخهم نجدهم دائماً ناقصين نقصاً كبيراً في درجتهم الإنسانية وإن الذي أعطاهم العظمة ليس إلا نوعاً من أنواع الجنون الذي يعتري العقل فيجعل صاحبه يفرط في شهوة من الشهوات ويجد من مركزه مساعداً على ذلك كمن يضعه مولده على كرسي الملك ثم يسرف في القتل وسفك الدماء وينال بذلك اسماً في التاريخ.
وليسوا هم العظماء وحدهم الذين يقدسون الجمال بل ذلك كما قدمنا سعي كل شخص مالك قواه الطبيعية. فإن تجربتي الشخصية أظهرت لي أن الناس من جميع الطبقات وفي جميع الأعمار لهم به ولوع خاص وإلى حد غير محدود ألا ينام الطفل ساعة تغني له أمه بأغانيها الهادئة الساكنة فينتقل من تهيجه الشديد وبكاءه إلى تخدر الأعصاب الذي يتبع النشوة والطرب ثم ينتقل من ذلك إلى عالم الموت الأصغر (النوم). وكثيراً ما يحدث أنه إذا نام ثم سكتت أمه تعاوده اليقظة ويرجع للبكاء لأن المؤثر الذي كان قد زال ولم تصل أعصابه إلى سكونها الكافي لراحته. كذلك أذكر حين كنت صغيراً وأخرج بعض ليالي الصيف الساهرة للجرن الفسيح لألعب مع الأولاد هناك أنني كنت أجد بعضهم أحياناً واقفاً محدقاً للسماء يرنو إلى البدر ثم يقلب نظره في النجوم وهو تائه في عالم عظيم من الأحلام لا نهاية له وليس ذلك الصغير إلا فلاحاً ساذجاً من الذين لا يعرفون حتى ولا القراءة والكتابة
تتوج جمال الطبيعة العظيم وتجلس على عرشه المرأة. في ذلك المخلوق الإنساني الرقيق وراء الجمال المحس جمال آخر أكثر تأثيراً في النفس وامتلاكاً للقلب وسلطاناً على