للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الليلة الماضية، لا يلبث إذ يفيق أن يعود إلى التعلل والأمل، وإن كان تعلله باطناً، وأمله كاذباً طائشاً، وإن المتعب والمخاوف والأحزان والمناكد لتبدوا في مشرق النهار ومطلع الفجر أقل وحشة وإرعاباً منها في ليلة الأمس ومسائه، بل إن المرء لهزأ بالآلام التي عاناها البارحة، والأحزان التي أحسها العشية الفائتة وأنه ليضحك من نفسه لحزنه وألمه ويعدها أوهاماً كاذبة، ومخاوف تافهة.

وإذا كان الماء أشبه شيء بالشيخوخة، فإن الصباح أقرب ما يكون إلى الشباب. لأنه أكثر ما يكون ضحوكاً مطمئناً واثقاً، على حين يكون المساء حزيناً كئيباً متوقعاً للشر مشفقاً من السوء. ولكن هذا الشباب الذي تشهدونه أيها الأحياء في مطلع كل يوم ليس إلا صورة من شباب أعماركم القصيرة المتعبة. وكما تسرع الحياة إلى خاتمتها يجري النهار إلى المساء.

خواطر أخرى للفيلسوف

على قدر حاجة الإنسان يكون شره، فإذا رأيت رجلاً يعيش هادئاً طيب السيرة، محمود السلوك، فثق بأنه مكفي الحاجة، لا يجد ضرورة للشر. ولقد رأيت أناساً من اطهر الناس قلوباً، وأعفهم طبيعة، وأرق القوم حشية، عمدوا إلى ارتكاب أفظع الكبائر لكي يتخلصوا من خطر كان محدقاً بهم أو حاجة كانت تمسهم.

إذا رأى القوم في مجلس سمر جليسين يتحدثان ويضجان بالضحك في جذل غير عادي، دون أن يعلموا موضوع هذا الحديث وباعث هذه الضحكات المتطاولة، فلا يلبث أن يتولى الحضور طائفة من الخوف وينتشر في وجوه الندى ظل من الرعب، ولا تلبث أحاديثم أن تتغير فمنهم من يصاب بالصمت ويعتصم بالخرس والسكوت، ومنهم من يعمد إلى الإنصراف وترك المجلس، وأما أهل القلوب الجريئة فمنهم ينضمون إلى الضاحكين يسألونهما الإشتراك في هذا الضحك والإسهام في هذا الجذل المتدفع، كأنما هذه الضحكات قنابل انطلقت من مكان قريب، لا يعرف مصدرها، ولا يعلم الحضور أين تقع منهم هذه القذائف ومن تصيب، ومن تحطم وكذلك ترى الضحك يبعث على احترامنا وإكبار شأننا حتى عند الغرباء، ويلفت أنظار الحافين من حولنا، ويهبنا رفعة وتفوقاً وسمواً على الجالسين في مجلسنا، فإذا ألفيت نفسك يوماً في مجمع لا يحفل بك أهله، أو يتلقونك ببرود أو كلفة أو جفاء، فليس عليك إلا أن تتخير منهم الجليس الذي تظنه يلائم مقصدك، ثم