للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النفس والظروف المحيطة بها هو من أوضح خواص مجنون الأنانية، وهو لهم مصدر عذاب دائم مآله الخراب التام في النهاية. بيد أن هذه الخاصة هي نتيجة لزومية لبنية جهازه العصبي الأوسط. فإن أول شروط إمكان الملائمة أن يكون الجهاز المذكور من الصحة بحيث يؤدي إلى الذهن صورة صحيحة للحقائق التي يلزم المرء أن يطابق بينها وبين نفسه (أي أن يسير على سننها ومناهجها) مثال ذلك أنك أيها القارئ لا تستطيع تجنب الحفر التي في الطريق إلا إذا كنت تبصرها. وإنك لا تستطيع أن تتقي اللطمة الواقعة عليك إلا إذا كنت تبصر مصدرها ومأتاها. ولا يمكنك أن تولج النصاح في خرت الإبرة إلا إذا كنت تتبين خرتها بطرف جلى وتحمل نصاحها بكف ثابتة غير رعشة. والحقيقة إن ما نسميه سلطاناً على الطبيعة إنما هو خضوعنا للطبيعة. وإن من خطأ التعبير أن ننسب الخضوع للقوى الطبيعية إذ الحقيقة هي أننا نحن الذين نلاحظ تلك القوى ونعرف خواصها ثم نوقع الملائمة بين صفات القوى المذكورة وبين رغباتنا وأغراضنا. فنحن مثلاً نعرف أن الكهرباء تسري في الأسلاك النحاسية فترانا نحتال بدهائنا فنضع تلك الأسلاك في المكان الذي نريد وصول الكهرباء إليه حيث نلتمس نفعها وفائدتها. أفليس ذلك خضوعاً منا لخواص الكهرباء وطباعها. فبلا خبرة بأحوال الطبيعة لا تتأتى الملائمة وبدون الملائمة لا يمكن الانتفاع بقواها وفضائلها وبعد فمجنون الأنانية لا يستطيع التوفيق بين الظروف المحيطة وبين نفسه لعدم استبانته حقيقة تلك الظروف أما عدم استبانته لحقيقة تلك الظروف فلأنه مريض الأعصاب الموصلة، بليد المراكز الإدراكية ضعيف ملكة التأمل.

والسبب الباعث على الملائمة وعلى كل مجهود يبذله الإنسان - والملائمة كما يعلم القارئ ليس سوى نوع من المجهود - هو الرغبة في قضاء حاجة حيوية أو الفرار من ألم ما. أو بعبارة أخرى القصد من الملائمة هو اكتساب الوجدانات اللاذة ودفع الأليمة. وعليه فالمريض العاجز عن إحداث الملائمة أضعف كثيراً عن اجتلاب إحساسات اللذة ودفع إحساسات الألم من السليم القادر على إحداث الملائمة. فلا غرو أن ترى هذا المريض (مجنون الأنانية) لا يزال يصطدم بالعقبات والعثرات لأنه لا يعرف كيف يتجنبها. ولا غرو أن تراه تتقطع نفسه حسرة على التفاحة اليانعة لأنه لا يدري كيف يتوصل الفرع الذي منه تتدلى. فمثل ذلك الإنسان خليق أن يشقى بالحياة وبالناس وإن يكون كثير التسخط