للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وما البغي والظلم والكيد والفتنة والإستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت. . ولكن ذهب باثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة وإنها لا تنالهم إلا فرداً فرداً، وكأن بطل الأمم غير باطل الأفراد لأن الإجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب. ولكن ليت شعري لم يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها!

فالحرب هي عقاب الجماعات وهي كذلك ضرورة اجتماعية ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واجدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري أن ذلك التركيب الإجتماعي الذي يخلو من الحروب لزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلاً على الأرض، يحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها فما هو إلا خيال خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحياناً على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة. وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه ولا من الثلج فلا يحمى دمه ولا من الصخر فلا يهن كاهله ولا من الحق فلا يحيد على غيره ولا من الرضى فلا يطمع في سواه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟

إلا أن الإنسان لا يولد ساكناً ولا نظيفاً وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تتفجر من حوله ههنا وههنا وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الأحياء في ثورة من الدم ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.

والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويطغي الماء وتثور العواصف وتنفجر الباراكين يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه، فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية