للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

التفكير ويشب كما توقد النار بتيار من الوحي وزكي لهيب التفكير بالرغبة كما يزكي لهيب النار بمنفاخها. وهذه الرغبة إما أن تكون خارجية أي غير ذاتية (ويراد بهذا النوع من الرغبة ذلك الذي يبعث الإنسان على الإهتمام بكل شيء خارج عن نفسه لاستطلاعه وبحثه والتفكير فيه والكتابة عنه) أو تكون رغبة باطنية أي ذاتية (وهي التي تغذي الإنسان بالتفكير في ذاته وأحواله الشخصية والكتابة عن تجاربه وأحواله وعواطفه) وهذه الرغبة الثانية هي التي عنها يكتب معظم الكتاب. أما الأولى فهي مزية الفئة القليلة منهم أعني الفحول الذين هم مفكرون بالفطرة فالتفكير فيهم غريزة كالتنفس لكل ذي رئتين.

القراءة تدفع في الذهن أفكاراً قد تكون منافية لحالته أثناء القراءة منافية طابع الحديد للشمع اللين الذي يطبع بذلك الطابع. فترى أن الذهن يكابد في هذه الحالة أشد الإكراه والضغط من الخارج. وذلك أنه يرغم على التفكير في هذا المعنى ثم في ذلك مما لا رغبة له في ساعته.

وعلى العكس من ذلك إذا شرع الإنسان يفكر لنفسه فإنه لا عدو مجاراة خاطرة ومسايرة وجدانه مما قد أثاره في نفسه إذ ذاك شيء من الأشياء المحيطة به أو هاتف من هواتف الذكرى. ونحن لا ندعي أن المناظر المحيطة بالإنسان قادرة أن تنقش على صفحات ذهنه فكرة واحدة معينة محدودة كما تنقش القراءة ولكننا نقول أن المناظر المحيطة تمده بالمواد والبواعث على أجله الفكر فيما هو مجانس لطبيعته مؤتلف مع مزاجه في تلك اللحظة وهذا هو السبب في أن كثرة القراءة تسلب الذهن كل ما به من صفات المرونة واللين والرخاوة التي تجعله طيعاً في قبضة صاحبه يصرف عنانه كيف يشاء وكالعجينة يكيف شكلها كما يريد. ويكون الذهن في حالة إدامة القراءة وعد التفكير كاللولب الذي تبقيه مضغوطاً على الدوام تحت ثقل عظيم وعلى ذلك فإذا كان أحد الناس لا يريد التفكير فأحسن طرقة هو أن يتناول كتباً فيقرأ كلما وجد نفسه خلواً من العمل.

وهذا هو السبب في أن العلم يجعل أكثر أربابه أشد بلادة وحمقى مما كانوا بفطرتهم ويكلل مؤلفاتهم بالخيبة ويحرمها النجاح ويجعلهم كما قال الشاعر بوب لا يزالون يقرأون ثم لا تقرأ لهم كلمة.

العلماء هم الذين أطلعوا على محتويات الكتب أما المفكرون والنوابغ والأعلام الذين قادوا