كبرى من ناحيتي. وهنا يثبت فوق المائدة شبح العم دارون يحمل قانون تنازع البقاء، فيدهن بأنانيته أطراف الشوك والملاعق والسكاكين لكي تكون أحد في الحمل والقطع، فإذا امتد الخوان، ووضعت الصحاف والألوان، وجلس قريبي بجانبي، لا يلبث أن يجيل البصر في المائدة، فيعد قطع اللحم، ويعد الجلوس ويقيس القطع على حساب تواريخ الولادة، وبموجب قسايم الصحة، ويحاول لو استطاع أن يجيء بشهادات من الأطباء يعترفون فيها بأنهم يرون الضرر الأكبر في أكل اللحوم، وقد استطاع أن يهزمني من المبدأ الذي يسير عليه في عملية التوزيع، وأعني به مبدأ السن، لأنه أكبر مني عمراً، ويكاد يطوي طيتين من سني، وعبثاً كنت أحاول أن أقنعه بأن يعتبر السنة من عمري سنة ونصفاً على قانون الخدمة في السودان، المعروف بالضمايم ذهاباً إلى أنني أديب وأنه ينبغي لي مقدار كبير من الغذاء لكي أكتب كتباً جميلة، وأضع أفكاراً رائعة، ولكن مثله لا يخدع من هذه الناحية، ولا ينهزم بهذه السرعة، إذ ينثني يجادلني في الأدب، ويروح ويثبت لي أن من أكبر ما يفسد الذهن، ويحدث الغباء، ويظلم الخاطر، أن يكثر الأديب من الطعام، ويحيلني إلى قائمة طويلة من الصوفيين والزهاد والنباتيين والخلوتية فلا يسعني إلا أن أرضى بقطعتي صاغراً منهزماً.
وأنا عندما تصلني رقعة دعوة إلى وليمة أو عرس، أبيت قبل ميعادها أياماً وأنا في ذهول ونشوة، ويزيد شكري لصاحب الدعوة إذا أرسلها إلي قبل موعدها بزمن يسير، لأنني أجلس إلى مائدته ست مرات أو تزيد في الحلم، وبذلك يشبع ذهني، ويأكل خيالي، بينما يكون طاهي الوليمة لم يبدأ بعد في تقشير بصلها، وأنا أنصح لصحابتي وأصدقائي قبل أن ينتهوا من ترتيب ألوان الوليمة، إذا فكروا يوماً في إقامة وليمة - إن يسألوني رأيي - لأنني أكون قد تخيلت في المنام أحسنها وأضمنها لاكتساب إعجاب المدعوين، وأعتقد أنني خليق بأن يركن إلى ذوقي، في مثل هذه المهمة، لأنها توافق. . . . مشربي. ولكني بعد أعجب العجب كله وأتساءل لماذا يأبى الناس إلا أن يخجلوا أو تثور العزة في نفوسهم إذا عرف عنهم أنهم يحبون الطعام ويستكثرون منه، ولماذا لا يأنفون من أن يكونوا مرابين ومحامين وصحفيين وممثلين وأشباه هؤلاء، ثم يموتون آنفة وخجلاً وحياء إذا قيل عنهم دباغين مع أنني أعتقد وأؤمن بأن جميع الناس دباغون وإنما تختلف درجات دبغهم وتتباين