للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال أيمرسون: إن الذي يجب علي أن أفعله هو ما يوحيه إلى وجداني وما أرى أنه صالح لشخصي لا ما يراه الناس أنه الأفضل والأولى بالإتباع. وهذه القاعدة على ما في تطبيقها من العناء والصعوبة سواء في ذلك الأمور العملية والشؤون العقلية هي بمثابة الحد الفاصل بين الهمة والمروءة وبين فتور العزم والنذالة.

فإن شئنا الاحتفاظ بشخصيتنا وأن نؤدي في هذه الحياة ما هو مقدور لنا وجب علينا أن ندرك تمام الإدراك نفوسنا وما تنطوي عليه من القوى فإنا إن جهلنا ذلك أصبحنا لعبة في أيدي الحوادث والطوارئ تعبث بنا وتقلبنا كيف شاءت وعدت علينا المعتقدات الفاسدة والأوهام الشائعة بين الناس فعطلت تطورنا نحو الكمال وتدرجنا في مدارج الرقي وحولت ذلك إلى وجهة غير التي تقتضيها طبيعتنا وأميالنا الأصلية الغريزية.

وأما إذا وقفنا على أسرار نفوسنا واطلعنا على حقائق هذا الكون الذي فيه نعيش وفي أرجائه نتخذ ميدان الحركة والعمل هان علينا أن نربي إرادتنا ونحكم نفوسنا وذلك بأن نهيئ الأسباب فتنتج حتماً نتائجها.

كذلك يفعل ربان السفينة: يعلم أن اللجة تحاول أن تبتلع سفينته في جوفها وأن الرياح تهب بغير ما يشتهي ويهوى فيهيئ من الأسباب والوسائل ما يضطر الأمواج أن تحمل سفينته طوعاً أو كرهاً والرياح أن تدفعها وتسير بها إلى بر السلامة.

وهذا العمل والسعي في إعداد الوسائل وتهيئة الأسباب القائمة على الروية والتفكير وإدراك حقائق الأمور لا تقتصر فائدتها على كشف ما في جوانب نفوسنا من الأميال والمنازع الأساسية الأصلية فقط بل أنها ترينا أيضاً بمرأى العين حقيقة الروابط الكامنة بين الناس في هذا العمران وتميط لنا اللثام عن القواعد والأصول التي تقدم عليها هذه الروابط. فاعلم أن وجود شخصية للمرء واكتمالها حتى يكون له قسط ونصيب من خدمة هذا المجتمع إنما يتوقف على ما لدى غيره من بني الإنسان من المدارك والصفات والأخلاق. وأن أقصى ما يبلغه من القوة في هذه السبيل تكون مطابقة لأكبر ما يكون بينه وبين أهل عصره من صلات التضامن والعدالة وعلى مقدار هذه الصلات والروابط تكون حالته بلا زيادة ولا نقصان.

وهذا العلم الذي يحصل للمرء تدريجياً ويتناول معرفة ما هو منطوٍ بين جوانحه من الأميال