ومن الشواهد على ما نذهب إليه أيضاً ما نعانيه من قسر الأطفال على المواظبين على عمل من الأعمال. وأنظر إلى الصناع والزراع فهل نجد منهم من حاول إتقان عمله وابتكر فيه من ضروب الإيجاد ما لم يسبقه إليه أحد ألا تراهم محتذين حذو من تقدمهم مقتفين آثارهم ناسجين على منوالهم. وإذا استعرضت في ذهنك جميع ما نستعمله في بيتك من آنية وغيرها لرأيت أكثرها خداجاً ناقصاً وأنه لو كان بذل في سبيله شيء من الجهد العقلي لكان أوفى بحاجة الناس مما هو الآن وأدنى إلى الغاية. إذا تبين لك ذلك أدركت صدق ما قاله الفيلسوف هزبرت سبنسر في هذا المعنى: يخيل إلى أن الناس جعلوا وجهتهم أن يقضوا هذه الحياة من غير أن يبذلوا في سبيلها من الفكر إلا أقل ما يستطيعون، نعم فإننا إذا رجعنا إلى ماضي حياتنا وتمثلنا بذاكرتنا أيام المدرسة لما وجدنا بين رفاقنا جميعاً من كان يكد ذهنه ويأتي بما يدل على جهد عقلي بل كان أكثرهم يعتمد على ذاكرته في استظهار بعض ما يمكنه من النجاح في الامتحانات. وعندما ينتقلون إلى المدارس الخصوصية يزداد نفورهم من كل درس يحتاج إلى أعمال الفكر والروية وكل آمالهم ومطمح أنظارهم اجتياز الامتحان بإجهاد الحافظة ثم بذل ما في وسعهم لنيل وظيفة في إحدى المصالح يرتزقون منها ولا يتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك غاية ولا يطمحون إلى معالي الأمور. ولقد أجاد الموسيو رنوفيه كل الإجادة في وصفهم حيث قال:
إن الذي يتطلع إليه الشباب ويجعله قبلة آماله وظيفة يحصل عليها قليلة لأجر قليلة لا احترام ولا مستقبل لها ولا أمل في التدرج منها إلى ما هو أرفع. تمر الأيام وتكر السنون ولا يزال حتى يدركه الهرم وهو على كرسيه معنى بأعمال عادية تافهة ويرى في كل يوم انحطاط قواه عقلاً وجسداً ولكنه يروح عن نفسه بالانصراف عن كد الذهن وإجالة الرأي والتصرف في الأمور لأن النظامات واللوائح أغنته عن ذلك وحددت حركاته وأعماله وجعلتها على مثال آلة الساعة في وقتها وانتظامها وأغنته عن مشقة السعي والحياة الحقيقية
على أنا لا نلوم الموظفين وحدهم وننعي عليهم هذا النقص الذي أشرنا إليه فإن المهن الأخرى مهما تكن درجتها من الرفعة والسمو لا تكفي لحفظ شخصية صاحبها ولا تضمن له قوة إضافته واستقلال رأيه فإن المرء أول ما يمارس عملاً من الأعمال يجهد عقله في