وهكذا فيتألف من ذلك سلسلة طويلة من الأفكار ومن الهين علينا الميسور لنا أن نستعين بنواميس تسلسل الأفكار وارتباطها بعضها ببعض فنقطع سلسلة منها شاغلة لذهننا وندخل فيها بإرادتنا أفكاراً أخرى غريبة عن هذه المجموعة فندمجها فيها وننظمها في سلكها ثم نربط ما انقطع من تلك السلسلة. كنت أفكر في إيراد مثال أوضح به هذه القضية النظرية فهداني الإتفاق إلى المثال الآتي وطالما كان الإتفاق خير هاد وأرشد دليل. ذلك أنني بينما كنت أفكر إذ طرق سمعي صفير صادر من صفارة العمل القريب من داري فقطع هذا الصوت الذي مثل لسمعي سلسلة الأفكار التي كانت شاغلة ذهني ولو شئت أن أستبقيها لما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثم تجلى لخيالي منظر البحر عند شواطئ جزيرة (قورسه) والجبال الشامخة والمناظر الأنيقة الشائقة التي تبدو أمام عيني المتنزه على شاطئ البحر في مدينة (باستيا) إحدى مدن تلك الجزيرة. وإنما استعاد خيالي تلك المناظر لأن صفير صفارة الذي طرق سمعي يحاكي كل المحاكاة صفير البواخر الذي كنت أسمعه كل يوم في غضون ثلاثة أعوام قضيتها في تلك المدينة.
فمن هذا المثال تعلم أن الأقوى هو الذي له حق البقاء في الذهن فإن أردت أن تطرد من ذهنك فكرة فسلط عليها فكرة أخرى أقوى منها وأشد بأساً.
ومن القواعد العامة في علم النفس أن الأحوال الماثلة أقوى من الممثلة أو بعبارة أخرى أن الأحوال الحاضرة في الذهن التي ترد إليه من طريق الحواس الخمسة أكبر حولاً وأشد قوة من الأفكار التي تهجس في الضمير وتمثل المعاني والمدلولات البعيدة عن الحس. وكما أن صفير الصفارة طرد من ذهني مجموعة الأفكار التي كنت أريد أن أطلق لها العنان فكذلك لكل إنسان أن يحتذي هذا المثال بحكمة وحذق فيثبت في ذهنه من الأفكار ما يشاء ويمحي منه ما يشاء.
فإذا تولدت في ذهنك سلسلة من الأفكار لا تود بقاءها فيه وتريد أن تمحوها من نفسك فما عليك إلا أن تصطنع أحوالاً ماثلة تعرض لذهنك بقوة وتقطع هذه السلسلة وتحل محلها.
ومن جملة هذه الأحوال الماثلة ما هو طوع إرادتك ورهن إشارتك تستخدمه أينما شئت وكيف شئت وهي الحركات ومنها حركات اللسان والشفتين أي النطق. فإذا رمت أن تطرد بعض الأفكار من ذهنك فخذ في قراءة قطعة وانطق بألفاظها وأجهر بصوتك عند القراءة.