كل إنسان يعلم حق العلم أن كل نفس ذائقة الموت وأن كل كائن حي لا بد أن يموت ولكن قلما ينتفع أحد بهذه الفكرة لأنها تتردد في الذهن ولا تأثير لها على أخلاق المرء وطباعه وكان حقاً عليها أن تخفف من غلوائه وتيهه وأن تعزيه عن مصائب هذه الحياة وآلامها وأن تطهره تطهيراً من الطمع والجشع والتناهي في حب الذات. ولكن أنى لها ذلك وهي مجرد فكرة لم تستشعرها النفس ولذلك ترى المجرمين الذين قضي عليهم بحكم الإعدام لا يشعرون بدنو أجلهم وتنفعل بهم نفوسهم إلا في آخر أيامهم. ولقد وصف (ديكنيز) حالهم بقوله: تتردد فكرة الموت دائماً في ذهن المحكوم عليه بالإعدام ولكنها لا تكاد تخطر حتى تزول. وكلما فكر في انصرام حبل أجله وارتعدت فرائصه وانخلع قلبه هلعاً واحمر وجهه حتى يحاكي الجمرة ثم ينتقل فكره رغماً عن إرادته فيحدق ببصره في كوة للغرفة التي أعتقل بها ويعد قضبان الحديد التي فيها ويلمح بينها قضيباً قد التوى فيتساءل عما إذا كان أولياء الأمر في ذلك السجن يبادرون إلى تقويم ذلك الإعوجاج ثم ينتقل فكره على هذه الصورة حتى إذا أقبل مساء آخر يوم من أيامه تجلت له صورة الموت في أبشع مظاهرها فتحس بها نفسه فتخور قواه ويستولي على قلبه الجزع واليأس.
وقد ذكرنا من الأمثال والشواهد ما يكفي للدلالة على ضعف تأثير الفكرة بالنسبة للعاطفة. ولكل قارئ أنم يراجع ما مر به من الحوادث وما استفاده من التجارب فيجد كثيراً منها يؤيد صحة قولنا.
والخلاصة أن الفكرة في ذاتها ضعيفة وكانت تكون قوية لو أنها وجدت وحدها في الضمير ولكنها ليست فريدة فيه بل هي والعواطف فيه فرسا رهان فهي مضطرة أن تستمد منها ما هي في حاجة إليه من القوة اللازمة للمجاهدة.
ـ ٢ ـ
في أن لنا السلطة التامة على أفكارنا وكيفية الإنتفاع
بتلك السلطة واستخدامها
إذا كانت أفكارنا عاجزة عن التأثير بنفسها كما تقدم الكلام فذلك لا يهمنا ولا يحززننا لأن لنا عليها السلطان الأعظم ولنا أن نتصرف فيها كما نشاء. إذ من المعلوم أن من طبيعة القوى المدركة أن الفكرة إذا خطرت جذبت إليها فكرة أخرى ترتبط بها وهذه تجر غيرها