معقول وترتعد فرائصه فرقاً ويخفق قلبه خفقاناً شديداً فيصعد الدم إلى رأسه وتحتقن وجنتاه ومع أنه يفهم أن لا محل لهذا الرعب ويعلم أن استرساله في ذلك معيب وحاط من كرامته فلن يستطيع أن يتغلب على عواطفه ويقهرها. فمن لم يحدث له مرة مثل ذلك عليه أن يختبره بنفسه وذلك بأن يقوم بعد منتصف ليلة من ليالي الشتاء تعصف فيها الرياح عصفاً شديداً ويأخذ في قراءة قصة (الباب المسدود) من كتاب القصص الخرافية تأليف هومفن فيرى بعينيه كيف تعجز قواه العقلية ومداركه السليمة عن التغلب على عاطفة الخوف.
دع الآن هذه العواطف الغريزية وانظر إلى العواطف التي تكتسب بالرياضة والمران، وتأمل في الفرق البعيد بين تنائجها ونتائج الأفكار. انظر مثلاً إلى الإعتقاد الديني لدى الأدباء والمستنيرين والمهذبين من أهل الحضارة القائمة على التعقل والبحث المنطقي، وهذا الإعتقاد بعينه لدى راهب من رهبان (الدومنقيين) القائم على الإيمان والتسليم بلا بحث. تجده لدى هذا الراهب اعتقاداً راسخاً كالجبل لا يميد وعاطفة عالقة بالنفس لا يتطرق إليها الشك، يؤمن إيماناً صحيحاً بضحى في سبيله ملاذ هذه الحياة ويزهد فيما يتهافت عليه الناس ويتهالكون على اقتنائه ويصبر على الفقر والجوع ويروض نفسه على تحمل التعب والألم وأما ذلك المترف الذي يعرف قواعد الدين ويعلم حكمها وأحكمها وقد يذهب للصلاة في الكنيسة ولكنه لا يحجم عن اقتراف أشنع الآثام التي تنم عن الأنانية والطمع كأن يقتر على خادمته المسكينة ويرهقها فلا يطعها إلا بقدر ما تمسك رمقها، لا يشفق على ضعفها ولا يرثي لحالها بل يكلفها من العمل ما هو فوق طاقتها على أنه ينفق بلا حساب في سبيل لذة ينالها أو وطر يقضيه.
بل انظر إلى ذلك الإشتراكي الذي يرقى المنابر ويرفع عقيرته بالدفاع عن حقوق العمال يصف حالهم وظلم أصحاب الأموال لهم ثم نجده بعد ذلك يعيش عيشة البذخ والترف يتنعم بكل صنوف الملذات وينفق عن سعة فيما لا تدعو إليه ضرورة وإنما اقتضاه الزهو والخيلاء. أين هذا الإشتراكي من مثل الكونت تولستوى الذي يؤمن بالإشتراكية إيماناً ويحس بها إحساساً ولذلك لم يمنعه ماله من شرف المحتد والثروة الطائلة والقريحة المتوتدة والجاه العريض والصيت الذائع من أن يقيم بين الفلاحين ويشتغل في الأرض معهم ويقاسمهم شظف عيشهم ويشاركهم في سرائهم وضرائهم.